لم يكن حريق المسجد الأقصى المبارك, إلا حلقة من سلسلة حلقات المخطط الصهيوني لتهويد القدس, وهدفه القضاء على الحرم الشريف, وعلى مسجد الصخرة المجاور له والاستيلاء عليهما, تمهيدا لتشييد هيكلهم المزعوم على أنقاضهما ومجابهة العالم كله بالأمر الواقع.
إن حرق المسجد الأقصى- أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين- لم يكن مفاجأة لأحد من الناس, وأن العرب والمسلمين لم يؤخذوا على غرة حين أقدم الصهاينة على تدمير المسجد الأقصى, لأن نيات الصهيونية العالمية المبيتة للقضاء المبرم على المسجد الأقصى وإزالته من الوجود وإقامة هيكل سليمان المزعوم على أنقاضه معروفة قبل أن يكون للكيان اللقيط وجود في الأرض المقدسة وبعد أن أصبح لهم كيان في فلسطين، وهناك العديد من الوثائق والتصريحات التي تكشف نوايا ومخطط الصهاينة حول تدمير المسجد الأقصى المبارك وبناء هيكل سليمان المزعوم على انقاضه, نذكر البعض منها سواء قبل إعلان الكيان اللقيط عام 1948م, أو بعد إعلان ككيان مغتصب ومحتل لفلسطين.
جاء في دائرة المعارف اليهودية في لندن عام 1904م,: (أن اليهود يجمعون أمرهم بغية الزحف على القدس وقهر العرب وإعادة العبادة إلى الهيكل وإقامة ملكهم هناك ) . وجاء في دائرة المعارف البريطانية: (أن اليهود يتطلعون إلى امتداد إسرائيل واستعادة الدولة اليهودية وإعادة بناء الهيكل)، وقد طالب اليهود أثناء الاحتلال البريطاني على فلسطين "1917- 1948م" الحكومة البريطانية أن تسلمهم الحرم الشريف في القدس بحجة أنه ملك لهم - بحسب مزاعمهم-، وفي عام 1929م, أعلن الزعيم اليهودي "كلوزتز" أن المسجد الأقصى القائم على قدس الأقداس ملك لهم . وقال الوزير البريطاني اليهودي آنذاك "متشت": (إن اليوم الذي سيعاد فيه بناء الهيكل أصبح قريباً جداً, وأنني أكرس ما بقى من حياتي لبناء هيكل سليمان في مكان المسجد الأقصى) (اهداف اسرائيل التوسعية في البلاد العربية, اللواء الركن محمود شيت خطاب).
بعد إعلان الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين في 15 مايو 1948م, فقد كانت نيات وخطط الصهاينة مكشوفة إلى أبعد الحدود حول هدم المسجد الأقصى المبارك وإقامة هيكل سليمان في مكانه، ففي يوم 6 حزيران 1967م, بعد نكسة العرب في حرب الستة ايام, احتل العدو الصهيوني ما تبقي من مدينة القدس القسم الشرقي منها "القدس القديمة"، فبادر رئيس الكيان الصهيوني ورئيس وزرائهم ووزراء صهاينة يتقدمهم الحاخام الأكبر اليهودي إلى الزحف نحو حائط البراق وأول ما فعله المحتلون هو تغيير طبيعة "حائط البراق" الذي أسموه حائط المبكى، وهناك قال الصهيوني "موشى ديان" : (اليوم أصبح الطريق إلى المدينة مفتوحا)، واستباح اليهود الصهاينة حرمة المسجد الأقصى المبارك بالسماح للصهاينة من المجندين والمجندات والمدنيين منهم بدخوله مرتدين ملابس فاضحة وهم سكارى كأنهم في الحانات أو أماكن الدعارة، وبدأ العدو الصهيوني بعد احتلاله لمدينة القدس بهدم جميع الأبنية الأثرية الملاصقة للمسجد الأقصى المبارك والكائنة حوله, وباشر بإجراء حفريات في أرجائه، وذلك من بعد 6 يونيو 1967م, بحثا عن آثار عبرانية يمكن أن تكشف عن بقايا هيكل سليمان المزعوم، وقد صرح وزير الأديان الصهيوني في مؤتمر ديني عقد في القدس عقب احتلاله, قال فيه: (أرض الحرم– المسجد الأقصى– ملك يهودي بحق الاحتلال وبحق شراء أجدادهم لها منذ ألفى سنة)، وقد أنشأ العدو الصهيوني صندوقا لجمع التبرعات من أجل إعادة بناء الهيكل وهذه التبرعات تجمع من اليهود وأشياعهم في جميع أنحاء العالم.
ومن الوثائق ايضا التي حرضت على هدم المسجد الأقصى المبارك, ففي 30 مارس 1968م, كتب أمريكي من الولايات المتحدة الأمريكية رسالة إلى المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القدس, قال فيها: (إن هيكل سليمان كان المحفل الماسوني الأصلي, وأن سليمان كان رئيس المحفل وإن مسجد عمر "يريد: المسجد الأقصى" واقع على الهيكل هو والصخرة التي قدم عليها إبراهيم ولده إسحاق قربانا لله، وإنني كماسوني أرأس جماعة في أمريكا تطمح أن ترى هيكل سليمان وقد أعيد بناؤه, وإن هذه الجماعة تقوم بجمع مائة مليون دولار لهذا الغرض)، (مجلة الوعي الإسلامي, الكويت, العدد 49, غرة محرم 1386 هجرية, الموافق 29 مارس 1969م), وقبل احراق المسجد الأقصى المبارك بخمسة أسابيع, ففي 15 يوليو عام 1969م, رفضت محكمة الاستئناف الشرعية الإسلامية طلبا لمؤسسة ماسونية أمريكية, من أجل بناء هيكل سليمان المزعوم في منطقة الحرم بكلفة 100 مليون دولار، (القدس والمسجد الأقصى المبارك حق عربي وإسلامي عصي على التزوير, د. حسن موسى).
تحريض الصحف
لم يكن حريق المسجد الأقصى المبارك في 21 أغسطس عام 1969م, إلا حلقة من سلسلة حلقات المخطط الصهيوني لتهويد القدس, وهدفه القضاء على الحرم الشريف, وعلى مسجد الصخرة المحاورة والاستيلاء عليهما, تمهيدا لتشييد هيكلهم المزعوم على أنقاضهما ومجابهة العالم كله بالأمر الواقع، وقد مهدت الصحف الصهيونية قبل شهر واحد من حرق المسجد الأقصى المبارك بالنار الجو المناسب لإزالة المسجد الأقصى المبارك من الوجود, فدعت إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لتحقيق هذا الهدف، فقد نشرت صحيفة "لا مرحاب" الصهيونية مقالات تحت عنوان "هيكل سليمان بالقدس" قالت فيه حرفيا: (يجب الاستيلاء بسرعة على المقدسات الإسلامية ووضعها تحت سلطة إسرائيل مهما كان الثمن).
كانت سلطات العدو الصهيوني قد مهدت لحريق المسجد الأقصى المبارك بعدد من الإجراءات والتحريضات ومنها:
أ- استملاكات ومصادرات وهدم ونسف العقارات الوقفية الملاصقة للمسجد الأقصى من الغرب والجنوب.
ب- احتلال باب المغاربة, أحد أبواب الحرم الشريف الملاصق للمسجد الأقصى من الغرب, وإقامة مركز عسكري صهيوني فيه, وإباحة الدخول إليه من قبل جميع الزوار الصهاينة دون رقابة موظفي الوقف الإسلامي عليهم.
ج- إقامة مظاهرات وصلوات يهودية داخل ساحات الحرم الشريف من قبل رجال الجيش الصهيوني ومنظمات صهيونية متطرفة وهيئات دينية.
د- تصريح لوزير الأديان الصهيوني "زيراح فيرهافتيغ" في 12أغسطس 1967م, في مؤتمر ديني يهودي عقد في القدس بعد احتلالهم له بشهرين جاء فيه: (إن تحرير القدس قد وضع جميع المقدسات المسيحية, وقسما من المقدسات الإسلامية تحت سلطة إسرائيل, وأعاد إلى اليهود جميع كنسهم فيها, لكن لإسرائيل مقدسات أخرى في شرقي الأردن, وفي الحرم القدسي الشريف , وهذا الأخير هو قدس الأقداس بالنسبة لليهود)، وتصريح ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء الكيان الصهيوني, قال فيه: (لا معنى لإسرائيل بدون القدس, ولا معنى للقدس بدون الهيكل) . (القدس تاريخا وقضية, أ. حبيب غانم).
كشف المجلس الإسلامي الأعلى في القدس استمرار المؤامرة الصهيونية على المسجد الأقصى المبارك, فطالب "جولدا مائير" رئيسة وزراء الكيان الصهيوني بأن توقف فروا أعمال الحفر التي تقوم بها السلطات الصهيونية أسفل المسجد الأقصى, وأنذر بأن هذا الحفر يهدد بتقويض المسجد من أساسه!، وقد أعرب المجلس الإسلامي عن مخاوفهم من أن تسفر أعمال الحفر هذه التي وصلت إلى عمق أربعين قدما عن تعريض المسجد للخطر, وقد سبق لأعمال الحفر أن أصابت الجانب الجنوبي من المسجد بأضرار جسيمة قبل حرق المسجد الأقصى، وذكروا أن التقارير تشير إلى اعتزام السلطات الصهيونية بناء معبد لليهود تحت الأرض في أسفل المسجد الأقصى مباشرة, ليكون الخطورة الأولى لبناء هيكل سليمان المزعوم، وقد ذهب احتجاج المجلس الإسلامي الأعلى أدراج الرياح ليأتي حرق المسجد الأقصى المبارك في 21 أغسطس 1969م, ليؤكد حقيقة نوايا الصهاينة واليهود ومن خلفهم المسيحية الصهيونية والمنظمات الصهيونية في هدم المسجد الأقصى المبارك.
ئإن كل الاعتداءات على المسجد الأقصى المبارك من قبل الصهاينة دائما تتواكب مع الاعياد الدينية اليهودية وهذه الأعياد تعود جذورها إلى التلمود الذي يعد الكتاب الأول الذي تعتمد عليه الجماعات اليهودية والصهيونية المتطرفة في استقاء فتاواها وتطرفها وارهابها، بالرغم أن التلمود ليس من الكتب السماوية المنزلة بل هو من وضع حاخاماتهم، ومن أهم اعياد اليهود (عيد خراب الهيكل) الذي يوافق 9 أغسطس، ليقوم بعد ذلك العيد في21 من أغسطس 1969م, يهودي صهيوني متطرف بتواطئي ودعم ومساندة من قوات الاحتلال الصهيوني بإحراق المسجد الأقصى المبارك.
بعد سقوط مدينة القدس كاملة ووقوعها تحت الاحتلال الصهيوني بعد نكسة 5 حزيران 1967م تعرض المسجد الأقصى المبارك لمئات الاعتداءات كان أسوأها الحريق الشهير يوم 8 جمادى الآخر 1389 هجرية الموافق 21 أغسطس 1969م, على يد المستوطن الاسترالي اليهودي الصهيوني المتطرف (ما يكل دينس روهان) وهو من أعضاء (كنيسة الرب) باقتحام ساحات مسجد الاقصى المبارك وتمكن من الوصول إلى المحراب في المسجد وإضرام النار فيه , في محاولة لتدمير المسجد الأقصى المبارك، وقد أتت النيران على مساحة واسعة منه شمل منبر نور الدين, كما امتد الحريق ليشمل أغلب الأروقة الشرقية منه أضافة إلى سقفه الخشبي، إلا أن المواطنين الفلسطينيين حالوا دون امتدادها إلى مختلف أنحاء المسجد، فقد استطاع الفلسطينيين آنذاك إنقاذ ما تبقى في المسجد الأقصى المبارك قبل أن تجهز عليه النيران، بعد أن هرعت مركبات الإطفاء من مدينة الخليل وبيت لحم ومناطق مختلفة من الضفة والبلديات العربية لإنقاذ المسجد الأقصى المبارك, رغم محاولات الاحتلال الصهيوني منعها من ذلك وقطعها المياه عن المنطقة المحيطة بالمسجد في يوم الحريق نفسه, كما تعمدت مركبات الإطفاء التابعة لبلدية الاحتلال بالقدس التأخر حتى لا تشارك في إطفاء الحريق، وقد عمد الصهاينة إلى تشكيل محكمة صورية لمايكل, ولفقت أدلة جنونية وانتهت الرواية بوضع المتهم في مستشفى للأمراض العقلية لفترة من الزمن, ثم أخلت بعد ذلك سبيله وأعلنت عن عودته لأستراليا!.
حاولت سلطات العدو الصهيوني في بادئ الأمر إلصاق تهمة الحريق بشركة كهرباء القدس, إلا أن مبادرة الشركة بإرسال مهندسيها وبقطع التيار الكهربائي عن الموقع فور كشف الحريق, والقيام بإجراء تحقيق فني بسرعة, والإعلان عن سلامة الشبكة الكهربائية الموزعة والموصلة, ونفي وجود أي علاقة بين الكهرباء والحريق, مما فوتت على السلطات الصهيونية محاولة إلصاق تهمة الحريق بها, وقد تأكد بشكل حاسم أن الحريق مفتعل وغير طبيعي وليس من جراء التيار الكهربائي، وأن مياه البلدية لدى سلطات الاحتلال الصهيوني قد قطعت عن منطقة الحرم الشريف فور ظهور الحريق، وأن سيارات الإطفاء التابعة لبلدية سلطات الاحتلال الصهيوني قد تأخر وصولها ومباشرتها عملية الإطفاء، وأخيرا أن الذي ساهم وساعد على إخماد الحريق إطفائيات بلديتي رام الله والخليل، ولقد كشف المهندسون العرب الذين انتدبتهم الهيئة الإسلامية العليا في القدس, أن الحريق قد شب في موقعين وليس في موضع واحد, وكان الأول عند منبر "نور الدين" الفني والتاريخي فأتى عليه برمته, فيما كان الحريق الثاني عند السطح الشرقي الجنوبي للمسجد فأتى على سقف ثلاثة أروقة وعلى جزء كبير من هذا من المسجد، وبعد حرق المسجد الأقصى المبارك, استولى العدو الصهيوني على الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل الذي كان مسجدا إسلاميا منذ الفتح الإسلامي واتخذ منه كنيسا لليهود ومنع المسلمين من الصلاة فيه ذلك اليوم, تحدياً للعرب والمسلمين واستهانة بهم, وذلك يوم 6 رجب 1389 هجرية الموافق 18 سبتمبر 1969م, واستيلاء الصهاينة على الحرم الإبراهيمي لفترة محددة آنذاك كان لجس النبض تمهيدا للاستيلاء عليه نهائياً وهذا ما حدث لاحقا.
وعلى إثر الحريق البربري للمسجد الأقصى المبارك صدر القرار الأممي للأمم المتحدة رقم "271", في 15 سبتمبر 1969م, ثم القرار "298" في 25 سبتمبر 1971م, الذي أكد كل القرارات السابقة, وألفى كل القرارات والخطوات الإسرائيلية المتخذة تجاه القدس.
على أثر نكسة حزيران 1967م, واحتلال العدو الصهيوني لما تبقي من مدينة القدس "القدس القديمة" والضفة الغربية وغزة وسيناء والجولان, ومن ثم اقدامه على احراق المسجد الأقصى المبارك عقدت العديد من القمم العربية والإسلامية في السودان والقاهرة ومكة المكرمة وعُمان سنة 1968م, وعقد مؤتمر إسلامي في "كوالا لامبور" بماليزيا سنة 1969م, كذلك انعقاد مؤتمر القمة الإسلامية في "الرباط" في المغرب العربي في 22 سبتمبر 1969م, وقد شهدت هذه المؤتمرات قسم من علماء المسلمين ومن السياسيين, وأعلنت المؤتمرات الإسلامية الجهاد بإجماع علماء المسلمين الذين شهدوا هذه المؤتمرات والذين لم يشهدوها، وكانت تلك المؤتمرات حدثا تاريخيا واستجابة لشعور العرب والمسلمين نحو القدس وفلسطين، وحين أحرق المسجد الأقصى المبارك طغى الشعور الديني والجهادي العرب والإسلامي لدي الشعوب العربية والإسلامية, فأصبح خطرا داهما يهدد الحكام العرب والمسلمين قبل العدو الصهيوني لذلك ظل الحكام متمسكين بالمواقف السلبية تجاه القدس وفلسطين وإلى اليوم نرى التخاذل والعمالة والخيانة في قضية العدوان على غزة وإبادة سكانها.
المصدر: 26sep.net