
طاعةُ الله هي السبيلُ الأوحدُ للفوزِ والفلاحِ والسعادةِ في الدنيا والآخرة، ومعصيتُه هي طريقُ الخسرانِ والشقاءِ فيهما. تلك هي الحقيقةُ المطلقةُ الحتميةُ التي لا سبيلَ إلى إنكارها.
جُل بنظركَ، أيها القارئُ الكريم، وأمعِنْ فكركَ في السماء، في الشمسِ والقمرِ والنجوم، وفي الأرضِ وما فيها من عجائبِ الخلقِ والتكوين؛ تجدْها جميعًا خاضعةً لقوانينَ دقيقةٍ صارمةٍ لا خللَ فيها، محكومةً في وجودها وسيرِها إلى غاياتها بتلك القوانين دون إرادةٍ منها.
إقرأ أيضاً:
وابحثْ ثم ابحثْ ثم ابحثْ ـ إلى ما شاء الله ـ عن مفردةٍ من مفرداتِ الكونِ الفسيحِ الرحيب؛ فلن تجدَ كائنًا متمرداً على طاعةِ الخالقِ العليم، بل تجدُ الكونَ يتحرّك في انتظامٍ عجيب.
وقد أشار
القرآنُ الكريم إلى هذه الحقيقة: حقيقةِ أنّ الكونَ متسقٌ مع إرادةِ الله ومشيئته، مطيعٌ لأوامره التكوينية، قال تعالى: ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴿فُصِّلَت:11﴾.
فالكونُ كلُّه متصلٌ بخالقه اتصالَ طاعةٍ واستسلامٍ لمشيئته وإرادته، خاضعٌ خضوعاً مطلقاً لقوانينه التي سنَّها له، لا يخرج عنها أبداً.
وحده الإنسانُ الذي يخضع لنواميسِ الكونِ كُرها لا طاعةً اختيارية؛ يخضع لها لأنه لا يملك خياراً آخر، ولا يستطيع الخروجَ من عباءةِ الكونِ وقوانينِ الله فيه، فالطاعةُ هنا طاعةٌ جبريةٌ شاء أم أبى.
أمّا ما جعله الله للإنسان من حقِّ الاختيار، فأغلبُ بني آدم عُصاةٌ خارجون عن القوانينِ التي سنَّها الله تعالى؛ مع أنّ كثيراً منهم يُقِرّون لله بالألوهيةِ والربوبية، لكنهم يعصونه ويخالفون أمره. وحدَهم عبادُ الله المخلِصون الذين تَصطلحُ قلوبُهم وكياناتُهم وحركاتُهم وتصوراتُهم وإراداتُهم ورغباتُهم واتجاهاتُهم مع شرع الله ومشيئته؛ إدراكًا منهم أنّ الله تعالى غنيٌّ عنهم وعن طاعتهم، وأنه لا يأمرهم إلا بما فيه مصلحةٌ لهم، ولا ينهاهم إلا عما فيه مفسدةٌ وضررٌ عليهم في الدنيا والآخرة.
إنّ هؤلاء يرون طاعةَ الله واجبةً لأجلهم هم، لصلاحِ حياتهم واستقامةِ عيشهم، وللفوزِ في آخرتهم، ولا يرون في الطاعة خضوعاً قسرياً لإرادةٍ عليا لا يملكون حيالها إلا التسليمَ والانقيادَ انقيادَ العاجزِ الذليل؛ بل يرونها معراجاً يعرج بهم في مدارجِ الكمالِ الإنساني، وانسجامًا مع طاعةِ الكائناتِ كلها لله، واتساقًا مع سُنَنِ الله وقوانينه، وعلاقةً وطيدةً بينهم وبين الربِّ الرؤوفِ الرحيم.
ويرون الطاعةَ تحرّرًا من أغلالِ الأهواء والشهوات والأنانية، ويجدون فيها المسارَ الأقومَ نحو الفوز والفلاحِ في الدارين، قال تعالى: "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴿الأحزاب:71﴾.
فالطاعةُ منهم ليست عملاً شكلياً، بل هي مبدأُ النظامِ الروحي والأخلاقي الذي تنتظم به حياتُهم كمؤمنين بالله؛ مدركين أنهم إن لم يطيعوا وعصَوا اختلَّ توازنُهم الداخلي والنفسي، واضطربت حياتُهم، وساروا بإرادتهم نحو الشقاءِ الأخروي.
وإنّ من يطيع الله لا يطيعه خوفاً من النار فحسب، بل لأنّ قلبه أدرك أنّ في طاعةِ الله -العليمِ الخبيرِ بحاجات الإنسان، الحكيمِ فيما يأمره وينهاه - حياةً وصيانةً له.
فالطاعةُ منهم لا تصدر إلا عن معرفةٍ بالله وبصيرةٍ في شريعته، وهم لا يطيعون الله طاعةً ظرفيةً، بل يتخذون الطاعةَ منهجاً لحياتهم؛ ففي كل خطوةٍ يخطونها، وفي كل أمرٍ يجتنبونه، يطيعون الله فيه، ويمتثلون أوامره ونواهيه، ويجعلون إرادتَهم تابعةً دائمًا لإرادةِ الله تعالى. وهذا هو معنى الفوز الكامل: أن تتوحّد إرادةُ الإنسان مع إرادة ربّه، فلا يسكن إلا حيث أمره الله، ولا يتحرّك إلا نحو ما يُرضيه.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي