
إن المتدبر في
القرآن الكريم يلحظ مستويات عدة للخطاب القرآني، فهو تارة يخاطب المؤمنين، وطوراً يخاطب الناس جميعاً.كما نراه أيضاً يفرد خطاباً للأمم والشعوب داعياً إياها إلى التعارف والتقوى في مراعاة الأحكام والقوانين والقيام
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،كما قال تعالى:"وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ...".
فالقرآن لا يتحدث عن الدول وما ينبغي أن تكون عليه أو تختاره الأمم من أنظمة حكم وسلطات سياسية تأمر وتنهى، لأن الأساس هو بناء الأمة، وكل شيء يأتي تبعاً لذلك،كون الأمة هي التي تعبّر عن نفسها بإيجاد المؤسسات، وخصوصاً مؤسسة الدولة التي هي تعبير موضوعي عن المحتوى الثقافي للأمة، تماماً كما فعل
الرسول الأعظم(ص) حين أقام الدولة في المدينة على وقع أمة أخرجها القرآن، على اعتبار أن الدولة في حقيقة نشوئها إما أن تكون قائمة فتختار ديناً رسمياً لها في ضوء ما تكون عليه من تفاعل ديني وثقافي، وإما أن يكون الدين سبباً ورأساً في إنتاجها.
وفي جميع الأحوال نرى أن
الخطاب القرآني يقدّم رؤية لما ينبغي أن تكون عليه الأمم من تحولات دينية وسياسية لتحقيق السلام والعدالة دون إكتراث لما يكون عليه الناس من إيمان والتزام،كما قال تعالى:"أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين..."
إقرأ أيضاً:
لقد كشفت التجارب التاريخية للبشر مع النبوة ومن دونها أنه لا يمكن لمجتمع ثقافي أو سياسي أن يستقيم من دون نظام وسلطة تأمر وتنهى وتحفظ النظام،على قاعدة: " لَابُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِیرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ...وإلا اختل النظام واستحال السلام".
وإذا كانت النبوة قد أسست لشيء في حياة البشر، فذلك لم يكن منها إلا بالاعتماد على ما لدى الناس من إستعدادات وقابليات وقدرات عقلية ومناهج وضعية إبتكرتها التجارب واختبرتها الأحداث، وهذا ما يجمع عليه علماء السياسة والاجتماع، وكذلك الفلاسفة أن النبوة لم تأت لتقيم مختبراً أو لتنتج صناعة،وإنما جاءت لتثير عقلاً وتقيم برهاناً بهدف تحقيق الكمال الإنساني بكل ما يعنيه من تحول في الرؤى والأهداف؛ وإلا فإن كل شيء من دونها قابل لأن يتطور ويتحول ليكون لكل إجتماع إنساني سلطته ودولته ونظامه السياسي الذي يعبّر عن محتواه الديني أو الجاهلي، سواء كان هذا الاجتماع بدائياً أو متحضراً بحيث تبقى لهذا الاجتماع تحولاته الضرورية وسياساته القاصرة التي مهما بلغت لن تصل به إلى حد الكمال الذي كفلته النبوات للبشرية فيما لو أخذت بالمنهج الإلهي في الدين والدنيا.
فالنبوة جاءت بالمنهج القويم لأجل تصحيح المسار البشري لضمانة مصيره، والهداية إلى السبل الكفيلة بتحقيق التحول الآمن والسليم، فأنتجت الدولة، وأرشدت إلى ما يحقق الكمال في إطار رؤية جديدة عن الكون والإنسان بعدما أنهكته التجارب وعضته الأحداث ومزقته الأحزاب والأنانيات، تقول الفلسفة الإسلامية على لسان ابن سينا: "إن النبوة وأمور الشريعة ليست مما لا يمكن أن يعيش الإنسان إلا بها، وإنما هي أمور لا يكتمل النظام المؤدي الى صلاح حال العموم في المعاش والمعاد إلا بها...والإنسان يكفيه ليعيش نوع من السياسة لحفظ اجتماعه الضروري".
إن أعظم أطروحة قدّمها القرآن في معنى الدولة،هي أنه لم ينظر الى الاجتماع الإنساني إلا بالقدر الذي يحققه هذا الاجتماع من إصلاح وانتظام؛ ولهذا نجد القرآن يركّز في تظهير حقيقة التحول البشري بكل وجوهه على إهلاك الأمم الظالمة؛ فأن تكون الدولة مدنية أو دينية، فهذا مما لا يتوقف عنده القرآن،لأن مناط الأمور إنما يتعلق بصلاح العموم في المعاش والمعاد،فحتى لو كانت الدولة مشركة أو كافرة، فهي بلحاظ نعمة الله والحفظ الإلهي طالما هي قائمة بحق العباد.أما حقوق الله تعالى،فليس لأحد أن يجعل منها شرطاً لحقوق العباد فهذه الأخيرة لها حق التقدم على ما سواها؛ لأن أقرب الناس الى رب الناس أنفعهم لعباده.
إن الله لفرط رحمته، وغناه عن عباده لم يهلك الأمم ولا الدول لكونها كافرة، وإنما أهلكها لثبوت الظلم فيها،كما قال تعالى:"وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ"،وقال تعالى:"وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ".
فالاعتبار دائماً وأبداً هو لحقوق العباد، وأنتم أيها الحكام، ويدخل معكم فقهاء السلطة، لم تنجحوا في إقامة الدولة المدنية لا لأنكم تريدون الدولة الدينية، بل لأنكم ترون حق العباد في سلطانكم وفي سطوة دهائكم، ففشلتم وخسرتم ولم تربحوا أدنى نجاح في ما يسمى بالسياسة الضرورية التي غالباً ما تفوز بها المجتمعات الجاهلية!؟
نعم، ألستم تسمعون لقول الله تعالى فيما يقدّمه لكم من بيان في معنى الدولة المدنية بكل ما تعنيه من دين ودنيا وإصلاح وتقوى، فهو يقول، ولا أظنكم تسمعون:"فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ". هذه هي مقومات الدولة المدنية أن لا تعبثوا بحقوق العباد وأن تقوموا بها حق القيام، فتقتحموا العقبة،لتكون لكم روحية الدين وكمال الرؤية والمنهج في ما تنشدونه من صلاح وإصلاح، وكم من دولة دينية لم تقتحم العقبة، وأفسدت حياة الناس! تاركةً لهم أن يفرحوا بالمستبد العادل أو بالكافر العادل وبالهجرة إلى بلاد عرفت الدين بخدمة البلاد والعباد، فوصلت الى الله تعالى قبل أن يصل دعاة الدين والإصلاح الى جهنم!؟
فيا حسرتاه! على أمم وشعوب ودول غابت عن مناهج أهل الأرض قبل أن تغيب عن منهج السماء.
بقلم أ.د.فرح موسى؛ رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان