
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ جانَبَ الإخْوانَ عَلى كُلِّ ذَنْبٍ قَلَّ أَصْدِقاؤُهُ".
تكشف لنا هذه الجوهرة الكريمة عن رؤية أخلاقية وإنسانية دقيقة ومهمة، ترتبط بطبيعة العلاقة بين الإنسان والإنسان، وبكيفية بناء الصداقة وحفظها، والتوازن بين المحبة والمحاسبة.
إن الإنسان بطبعه خطّاء، كما قال رسول الله (ص): "كلُّ بَني آدمَ خَطّاءٌ، وخيرُ الخطّائينَ التوّابونَ" فلا أحد من البشر يخلو من العثرات، ولا يمضي أحد في حياته من دون زلات صغيرة أو كبيرة، الخطأ جزء من التكوين الإنساني، وقد خلقنا الله تعالى خطّائين لنتعلم، ولنتكامل، لا لنتفنن في محاسبة بعضنا البعض.
لذلك من الخطأ أن يتعامل المرء مع الآخرين وكأنهم ينبغي أن يكونوا ملائكة، لا يُخطئون ولا يُقصّرون، فإذا أخطأ صديق، أو شريك، أو أخ، ولو مرة، نأى عنه وقطعه، فهذه نزعة مثالية مُفرطة، تفضي إلى قلة الأصدقاء، والعُزلة النفسية والاجتماعية، وهذا ما يعاكس حاجة الإنسان الفطرية للتواصل مع الناس وتكوين علاقات أخوة وصداقة معهم لكون كائن اجتماعي بطبعه.
وإذا كان الإنسان أي إنسان -خلا المعصوم- لا يخلو من الأخطاء، فمن الطبيعي أن تنعدم الصداقة إذا لم يصاحبها الصفح والتسامح، فالصداقة ميثاق بين روحين وقلبين يُدركان أن الخطأ وارد، وأن الكمال ليس شرطاً في المحبة، بل إن جوهر الصداقة يتجلّى في القدرة على الصفح، وعلى احتواء الزَّلَّات، وعلى تمييز الفعل الخاطئ العابر الذي لا يجوز أن يؤدي إلى انهدام الصداقة، عن الفعل المتعمَّد الذي يبعث برسالة سلبية عن الصديق ويدعو إلى اجتنابه.
فحين يُخطئ الصديق ثم يعتذر ويُظهر ندمه، فإن من الوفاء ألا نقطع معه حِبَالة المودّة على ذلك الخطأ العابر، والهفوة غير المقصودة، فالصداقة هي من العمق والمتانة بحيث لا تنقطع لذلك، نعم قد يُشَكِّل الخطأ العابر فرصة اختبار له، يعرِّفنا عليه أكثر، فإذا لم يتكرر خطؤه مضينا في صداقتنا، وإذا تكرَّر أظهر لنا عجزه عن التغيير مِمّا يشكل جرس إنذار لنا يدفعنا إلى اليَقظة والحذر في التعامل معه، فإذا تكرَّر أيضاً يصبح مبرراً لنا أن ننأى بأنفسنا عنه.
وعلى كل حال في قول الإمام (ع): "مَنْ جانَبَ الإخْوانَ عَلى كُلِّ ذَنْبٍ قَلَّ أَصْدِقاؤُهُ" توجيه لنا إلى الصفح والإغضاء عن الهفوات والزلات، والاعتدال في التعامل معها، بحيث لا نكثر من التدقيق والمحاسبة، ولا نُفرِط في التسامح والتنازل، نصفح عن الهفوة العابرة، ولا نقبل بالإساءة المستمرة، إذ ليس كل خطأ سبب لقطع العلاقة مع الصديق، فبعض الأخطاء يكفي فيها العتاب، وتسجيل ملاحظة، وبعضها الآخر قد يُكتَفى معه بالصَّمت، وبعض ثالث قد يحتاج أن نعلن له عفونا عنه، والعفو فيه تأديب له، وبعض الأخطاء يجب أن يفضي إلى قطع العلاقة من دون تردُّد، خصوصاً الأخطاء ذات البعد الأخلاقي الكبير، أو ذات البعد الشرعي كما لو ارتكب كبيرة من الكبائر.
وينبّهنا الإمام أمير المؤمنين (ع) إلى أن العلاقات كما الحياة الشخصية لا تُدار بالمثالية المُطلقة الخالية من الأخطاء، بل تدار بالحكمة، ومن الحكمة أن نتجاوز ونصفح ونغفر، وألا نحاسب على الصغير والكبير، وأن نُحسِنَ الظنَّ، ونعذر، بل نبحث عن أعذار، كي لا نحافظ على صداقاتنا وحسب، بل نحافظ على أنفسنا من ضيقها، ونحافظ على قلوبنا من أن تُبتَلى بالقَسوَة.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي