
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعَمَ عُوقِبَ بِزَوالِها".
لا تزول النِّعَم من يد الفرد أو الجماعة صدفة، ولا ينقلب حالهما من السَّعة إلى الضيق من غير سبب، ولا يضنك العيش بعد الرغد جُزافاً، النعم لا تُمنَحُ عبثاً ولا تُسلَب اعتباطاً، بل هي أمانة الله تعالى يودعها في يدي العبد أو الجماعة اختباراً له ولها، قال تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴿الحديد:7﴾.
فالله سبحانه هو المالك الحقيقي للنعم كلها، وهو الذي يُنعِم بها على عباده على سبيل الأمانة والاستخلاف، ومقتضى ذلك أن يعترفوا لله تعالى بأنه صاحبها والمُنعِم عليهم بها، وأن يتصرَّفوا فيها وفق مشيئته، وينفقوها حيث يدعوهم إليه، ويحافظوا عليها من التَّلَف والإسراف والتبذير، وهذا هو الشكر الحقيقي لها، فإن أدوا شكرها أقامت عندهم، بل نَمَت وازدهرت، وإن لم يؤدّوا شكرها عوقِبوا بزوالها من أيديهم، وجرت فيها سُنّة الزوال والاضمحلال.
تلك هي المعادلة التي ينبهنا إليها الإمام أمير المؤمنين (ع): "مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعَمَ عُوقِبَ بِزَوالِها" وهي معادلة تفتح أبواباً واسعة على مفاهيم الشكر، وفلسفة النعمة، وقانون الجزاء.
والشكر ليس كلمة يرددها اللسان حين يقول: شكراً، بل هو شعورٌ قلبي بجلالة النعمة، وإدراك عقلي وقلبي بأن واهبها والمنعم بها هو الله تعالى، وسلوك عملي بإنفاقها حيث يرضى الله، وعدم إنفاقها في معاصيه، وفيما يرجع بالشَّرِّ والسُّوء على من بيده النعمة، أو على سواه من الناس والخلق، وقد عبّر الإمام الصادق (ع) عن هذا المعنى بقوله: "الشُّكْرُ صَرْفُ النِّعْمَةِ فِيْما خُلِقَتْ لَهْ" فمن أوتي مالاً وأنفقه في مواضعه فقد شَكَر، ومن أُعطِيَ وقتاً وملأه بما ينفعه فقد شكر، ومن رُزِقَ علماً ومعرفةً وبثَّهما في الناس فقد شكر، ومن رُزِق لساناً فصيحاً فبيَّن الحق ودعا إليه، ودافع عنه، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكَر فقد شكر، ومن رُزِق جاهاً وسُلطاناً فأفاد الناس وخدمهم، وحرص على مصالحهم فقد شكر، ومن رُزِق قوَّة فدافع بها عن المظلوم، وردَّ المعتدي عن حياض الوطن فقد شكر.
فالشكر في الإسلام ثلاثي الأبعاد: شكر قلبي: بإدراك فضل الله وإنعامه. وشكر لفظي: بالحمد له والثناء عليه. وشكر عملي: بحسن توظيف النعمة، وصيانتها، وحمايتها من الضياع أو الإسراف والتبذير.
الملفت أن الإمام علي (ع) يربط بين عدم شكر النعم والعقوبة بزوالها، حيث يقول: "عُوقِبَ بزوالها" ما يعني أن زوال النعم ليس اعتباطياً بل هو عقوبة من الله، فالله يُنعِم بها بمشيئته، ويزيلها بمشيئته، ينعم بها اختباراً فإذا أخفق صاحبها في الامتحان أزالها عنه عقوبة له، وإيقاظاً له من غفلته، وتنبيها له على خطئه.
فالذي لا يشكر النعمة، يُسيء الظن بالله المنعم، أو يتعامل معها وكأنها حقّ مكتسب لا فضل فيه، مثل هذا السلوك يقطع الصلة بينه وبين الله تعالى من جهة، ويفقده أهليته للحفاظ على النعمة، فيتولّى الله عز وجل تأديبه بسلب ما كان عند، وهذا تعبير عن جريان السُّنَّة الربانية في عالم الجزاء، أي إن زوال النعمة نتيجة حتمية لعدم شكرها، والقرآن الكريم يربط دائماً بين الأفعال والنتائج، فمن يُفسِد يرتَدُّ فساده عليه، ومن يُحسِن يرجع إحسانه عليه، من يشكر النعمة بالمعنى الذي أوضحته آنفاً يباركها الله وتزيد في يديه وتنمو وتزدهر، ومن لا يؤدي شكرها تزول منه وتضمحل.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي