
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ شَدَّ ظُهُورَ الْمُؤْمِنينَ".
لا أروم في هذه المقالة أن أكتب عن الأمر بالمعروف من زاوية فقهية من حيث وجوبه، ومتى يجب، ومراتبه، والشروط الواجب توفُرها في الآمر والمأمور به، فذلك موكول إلى محله ومظانِّه، لذلك سأقتصر في الحديث عن ذلك من حيث آثاره على استقامة الفرد والمجتمع، وقوة داعمة للمجتمع المؤمن، تشدُّ من أزره، وتُصَلِّبُ بنيانه، وتحفظ وحدته، وتقوي إرادته أمام التحديات والأزمات.
فلأعرِّف المعروف أولاً ثم نمضي في الحديث عن المعادلة التي بين أيدينا.
ذكر ابن منظور في معجمه (لسان العرب): أن المعروف، ضدّ المنكر، وهو كل ما عُرف حسنه، وتواطأ عليه العقلاء. يقال: فلان يصنع المعروف، أي يفعل الخير الذي يعرفه الناس. والمُنكَر: ضدّ المعروف، وهو ما تنكره القلوب ولا تعرفه، وتستقبحه العقول.
والمعروف في اصطلاح الفقهاء: كل فعل حسنٍ اختُصَّ بوصفٍ زائد على حُسنِه إذا عرف فاعله ذلك أو دُلَّ عليه، والمنكر: كل فعل قبيح عرف فاعله قبحه أو دُلَّ عليه. وضابط المعروف: كل ما حكم العقل بحسنه وأقرَّه الشرع الحنيف، وضابط المنكر: كل ما حكم العقل بقبحه وحرَّمه الشرع.
وإذاً: فالأمر بالمعروف ليس مجرد نصيحة عابرة يسديها شخص إلى شخص آخر، بل هو دعوة عملية إلى الخير، دعوة قد تكون بالكلمة الطيِّبة، أو بالفعل المُلهِم، أو بالموقف الثابت أمام الانحراف.
الأمر بالمعروف ركن أساسي في بناء المجتمع المؤمن وصيانة نظامه الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، والأخلاقي، بل على جميع الأصعدة، فعندما يتشارك أفراد المجتمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشعر كل واحد منهم أنه جزء فاعل من منظومة أخلاقية حيَّة واعية، مِمّا يعزِّز أواصر العلاقة بينهم، فيكون كل فرد منهم قوة لسواه في دفع كل قبيح (منكر) من ساحة المجتمع، ذلك المنكر الذي يبدأ خطوة، تليها خطوات، ثم تتحوَّل إلى عرف اجتماعي جديد إذا لم ينكرها أحد.
الأمر بالمعروف يجعل المجتمع حياً، واعياً، حريصاً على سلامته من الآفات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لأن من المعروف محاربة الفساد والظلم السياسي والاقتصادي، ونشر العدالة الاجتماعية، ومراقبة السلطة الحاكمة وتقويم أي اعوجاج يكون منها، ومنعها من الظلم والاستبداد.
الأمر بالمعروف يمثِّل آلية رقابة اجتماعية فذَّة، تنصح الحاكم والمحكوم، وتواجه الانحراف الفكري والعقائدي والأخلاقي والغزو الثقافي، وتقوِّم المسار، وتصنع مجتمعاً فاعلاً يشارك في القرار، ولا يكون متلقِّياً وحسب، فيصون المجتمع من القبيح، ويحافظ على هويته الأصيلة، ويضمن بقاء قِيَمِه السامية التي تشكِّل الأساس الأهَمَّ للمجتمع الإنساني الراقي.
إن المجتمع المؤمن لا يتشكَّل من أفراد منعزلين عن بعضهم البعض، بل يقوم على قاعدة الأُخُوَّة الإيمانية التي تصهرهم جميعاً في بوتقة إيمانية واحدة يشدُّ بعضهم أزر بعض، ويدعم بعضهم بعضاً، ويرجو بعضهم الخير لبعضهم الآخر، كما يقوم على قاعدة التواصي بالحق، والتواصي بالصبر، فإذا غابت فريضة الأمر بالمعروف، ضعفت الروح الجماعية، وأصبح كل فرد عرضة للانجراف في تيار الفساد، دون أن يجد من يوقظه أو يردّه، فيفقد المجتمع قوته وشأفته، ويهون على سواه من المجتمعات والأعداء، ولهذا قال الإمام أمير المؤمنين (ع): "مَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ شَدَّ ظُهُورَ الْمُؤْمِنينَ".
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الشؤون الدينية "السيد بلال وهبي"