
هذه واحدة من أهم المعادلات، وتعلمنا مهارة من أهم المهارات، مهارة نحتاج إليها في كل حياتنا، نحتاج إليها عند كل خطوة وكل قرار، في الكبير والصغير من أمورنا، نحتاج إليها كل يوم من حين أن ننهض إلى حين أن ننام فما أكثر القرارات والخيارات والخطوات التي نتخذها بين النهوض والنوم.
إذا أحسنت النظر في العواقب قبل الفعل، كنت في مأمن من الوقوع في الأخطار، هذه المعادلة، فهي دعوة للتبصّر، والتأمل في مآلات الأمور قبل الإقدام عليها، وتحذير من السير بلا بوصلة وتخطيط، ودون وعي بمواقع خطواتنا واتجاهاتها.
والحياة قارئي الكريم حلقات متصلة، وما نقوم به فيها من خطوات وقرارات ليس معزولاً عما سبقه وعما يليه، فمستقبلها وحاضرها يرتبطان بماضيها ارتباط وثيقاً، كارتباط مراحل النمو في النبات، القرارات التي نتخذها اليوم تصوغ شكل حياتنا غداً، سواء في الخير أو في الشر، والعاقل لا يكتفي باللحظة الراهنة، بل ينظر إلى سياقها العام، سياقها الماضي وسياقها الآتي، ويمدّ نظره إلى ما بعده، فإن كانت العواقب سليمة وإيجابية أقدم على الفعل، وإن كانت سلبية اجتنبه، كي لا يوقع نفسه في الهلكة، وقد نهانا الله عن ذلك إذ قال: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿البقرة: 195﴾.
إن قوله تعالى: "وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" بالرغم من وروده في ترك الإنفاق في سبيل الله، لكن مفهومها واسع يشمل كل مورد يكون فيه الفعل أو ترك الفعل مؤدياً إلى الهلَكة، والعواقب الوخيمة، لأن المورد كما قال العلماء لا يخصص الوارد، فليس للإنسان مثلا أن يسير في طريق محفوف بالمخاطر الجدية العقلائية، دون أن يتخذ لنفسه الاحتياطات اللازمة لذلك، كما لا يجوز له تناول الغذاء الذي يحتمل أن يكون مسموماً، ففي هذين الموردين بل في سواهما لا يجوز للإنسان أن يقدِم على أمر دون أن يتدبَّر في العواقب المترتبة عليه.
التدبُّر في العواقب فعل عقلائي يلتزم به كل العُقلاء، لذا تراهم لا يستعجلون، بل يتأنون، ويفكرون طويلاً قبل أن يخطوا خطوة واحدة، يتجنبون بذلك الفشل والخُسران والآثار السيئة، فالعاقل لا ينجرف وراء نزواته، ولا يتخذ قرارات مصيرية بدافع الغضب، والحماس، والاندفاع، والمجتمعات والدول التي يأخذ أفرادها وقادتها الوقت الكافي للتدبر في العواقب، يمكنها أن تتجنَّب الكثير من الأزمات، والحروب، والنتائج الكارثية.
والتدبُّر في العواقب لا يقتصر على الأمور الدنيوية بل يشمل الأمور الأخروية، بل هو الأولى والأهم لأن الدنيا إلى انقضاء والآخرة إلى بقاء، فالمؤمن قبل أن يقدم على أي فعل، يسأل نفسه: هل هذا الفعل حرام أم حلال، هل يرضي الله تعالى أم يغضبه، هل يقرِّبه من الله أم يُبعده عنه، هل عاقبة هذا الفعل الجنة أم عاقبته النار؟
وإذا: فالتدبُّر في العواقب شرط لازم وضروري لأي نجاح، وشرط لازم وضروري لتجنِّب الفشل والهلاك. ولهذا فإن الإسلام يرفض الأعمال المُرتَجَلة والمُتَسَرِّعة، ويأمر بالتفكر فيها والتَّدَبُّر في عواقبها ونتائجها، وأن يدرس المرء جميع الاحتمالات والافتراضات، وأن يلحظ الأمر من زواياه المختلفة، كما يأمر بالتخطيط اللازم لها، وإحكامها، وإتقانها، قبل أن يبادر إلى فعلها، لِيَحمي الانسان من الوقوع في الوَرَطات والهَلَكات، ولِئَلّا يذهب جهده هباءً منثوراً وهشيماً تذروه الرِّياح، بلا فائدة مادية أو معنوية.
ومن جميل ما أختم به، ما رُوِيَ عن الإمام جعفر الصادق (ع) أنه قال: "إِنَّ رَجُلاً أَتى رَسُوْلَ اللهِ (ص) فَقالَ لَهُ: يا رَسولَ اللهِ أَوْصِني، فَقالَ لَهُ: فَهَلْ أَنْتَ مُسْتَوْصٍ إِنْ أَنا أَوْصَيْتُكَ؟ حَتّى قالَ لَهُ ذَلِكَ ثَلاثاً، وَفي كُلِّها يَقولُ الرَّجُلُ: نَعَم يا رَسولَ اللهِ، فَقالَ لَهُ رَسولُ اللهِ (ص): فَإِنّي أُوْصِيْكَ إِذا أَنْتَ هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَتَدَبَّرْ عاقِبَتَهُ، فَإِنْ يَكُ رُشْداً فَأَمْضِهِ، وَإِنْ يَكَ غِيّاً فَانْتَهِ عَنْهُ".
بقلم الباحث اللبنانی في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي