
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنِ اعْتَزَّ بِغَيْرِ عِزِّ اللّهِ أَهْلَكَهُ الْعِزُّ".
العِزُّ خلاف الذُّلِّ. ويعني الرِّفعة، والمَجد، ويتضمَّن معنى الغَلَبة، والامتناع. والعِزَّة القوة الكاملة، والغَلَبة الشاملة، والقدرة التامة.
والعزُّ نوعان:
النوع الأول: العِزُّ الحقيقي، وهو الذي يُستَمَدُّ من منبعه الأصيل، وينشأ مِمّا يبقى ويدوم، ويعتمد على القوة الحقيقة الكاملة، والغلبة الشاملة، والقدرة المطلقة، وهو الله سبحانه وتعالى، القادر القاهر، والباقي الدائم، والغالِب على أمره، الذي لا تنال منه قدرة مهما عَظُمَت، بل تتصاغر عنده قدرة كل قدير، وقوة كل قوي، والذي لا يغلبه شيء، ولا يحول بينه وبين ما يريد شيء، ولا يُعجزه شيء، فكل ما سواه مقهور له، وكل ما سواه في قبضته، وهو مالك حياته وموته، يذهِبُه ساعة يشاء.
وقال الله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿26﴾ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿آل عمران:27﴾.
إقرأ أيضاً:
وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴿فاطر:10﴾ إنَّ العِزَّة كلها لله، وليس شيء منها عند أحد سواه، فمن كان يريد العزة فليطلبها من مصدرها الذي ليس لها مصدر غيره، ليطلبها عند الله، فهو واجدها هناك وليس بواجدها عند أحد، ولا في أي كَنَف، ولا بأيِّ سبب، فما سواه تعالى فليس مصدراً للعزة، لا يملكها إلا إذا مَلَّكه الله إياها، فإذا كانت له قُوَّة فمصدرها الأول هو الله، وإذا كانت له مِنْعَة فواهبها هو الله، ومن يكن هذا حاله فلا يمكنه أن يعطيها لأحد، أو يمنعها عن أحد، وإذن فمَن كان يريد العِزَّة والمِنْعَة فليذهب إلى المصدر الأول، لا إلى الآخذ المُسْتَمِدِّ من هذا المصدر، ليأخذ من الأصل الذي يملك وحده كل العِزَّة، ولا يذهب يطلبها من العاجز الضعيف.
النوع الثاني: العِزُّ الموهوم، وهو الذي ينشأ مِمّا لا يدوم ولا يبقى، ومن غير منبعه الحقيقي، كأن يعتزَّ الإنسان بماله، أو منصبه، أو قوَّته، أو أتباعه، أو يعتَزُّ بقوَّة غيره، فهذه عزَّة موهومة ليست حقيقية، لأن المال لا يدوم، والمنصب لا يدوم، والقوة لا تدوم، والأتباع لا يدومون.
في هذا السياق تأتي المعادلة التي يكشف عنها الإمام أمير المؤمنين (ع): "مَنِ اعْتَزَّ بِغَيْرِ عِزِّ اللّهِ أَهْلَكَهُ الْعِزُّ" فهي تفيد أن من اعتَزَّ بما هو موهوم فسُرعان ما ينقلب عليه عِزُّه فيُهلِكه، لأن ما ظنَّه عِزّاً هو سراب ووهم.
وقد عبّر الإمام (ع) عن ذلك ببلاغة مدهشة، حيث قال: أهلكه العِزُّ. فكيف يكون ذلك؟
الجواب: من يعتَزُّ بماله، يهلكه الفقر بعد الغنى، ومن يعتز بسلطانه، يهلكه زوال سلطانه، ومن يعتز بأتباعه يهلكه انفضاضهم عنه عند ضعفه، فهذا فرعون اعتزَّ بملكه وسلطانه وجنوده وقوته، وقال: يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿الزخرف: 51﴾ وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ﴿24﴾ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ ﴿النازعات:25﴾.
وهذا قارون اعتزَّ بعلمه وماله فخسف الله به وبداره الأرض، فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ﴿القصص:81﴾.
وهذا صاحب الجنتين اعتزَّ بجنتيه وظنَّ أنهما لا تبيدان أبداً، فلم يبقَ له ما اعتزَّ به، واستكبر بسببه على صاحبه، وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ﴿الكهف: 25﴾.
وكم في عصرنا الحاضر من طُغاة امتلكوا الجيوش، وراكموا الأموال، وكانت الأعناق تتطاول إليهم، ثم سقطوا وصاروا خبراً من الأخبار، وكم من فقراء تلهج الألسن بذكرهم لعزّتهم، لأنهم لم يبيعوا أنفسهم بثمن بخس!
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي