
من تحدّى
الحق كان مصيره الهلاك، تلك هي الحقيقة التي يُنَبّهُنا إليها الإمام أمير المؤمنين (ع). فالحق ليس فكرةً تجريديةً جامدة، بل هو روح الحياة، بل روح الكون كله؛ به تنتظم الأشياء والموجودات، وبه تستقيم النفوس، وبه تستقر الحياة، وبه تُبنى المجتمعات. وعلى الإنسان أن يبني حياته كلّها على قاعدة الحق، وأن يُسلِّم للحق، ويُذعِن له، ويكون داعياً ونصيراً له. فإذا عارض الحقَّ وأباه، ورفض التسليم له، وعانده، فإنّ الحق لا يرحمه، بل يجرفه كما يجرف التيارُ الجارفُ كلَّ شيءٍ أمامه.
وقال الله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴿الأنبياء:18﴾.
تلك هي سُنّة الله في الحق والباطل: الحق منتصر في نهاية المطاف، والباطل مهزومٌ ولو صال وجال، ومن يُبدي صفحته للحق ويعانده قد يظنّ أنه منتصر، وقد يمهله الله استدراجاً، فإذا جاء أجله هُزِم وسُحِق ودُمِغ. والآية الكريمة تُصوّر هذه السُّنّة الربّانية في صورة حسّيّة حيّة متحرّكة، فكأنّ الحقَّ قذيفةٌ في يد القدرة الإلهية، تُلقى على الباطل، فتشقّ رأسه، فإذا هو زاهقٌ هالكٌ ذاهب.
وقد يخيّل للناس أحياناً أنّ واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة الإلهية؛ وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطلُ منتفشاً كأنّه الغالب، ويبدو فيها الحقُّ منزوياً كأنّه المغلوب، وما هي إلا فترة من الزمان يمدّ الله فيها ما يشاء للفتنة والابتلاء، ثم تجري السنة الأزلية التي قام عليها بناء السماء والأرض، وقامت عليها الحياة الإنسانية والاجتماعية.
هذه هي السُنّة الثابتة المطّردة: فالحق أصيل في بنية الكون، عميق في نسيج الوجود، والباطل منفيٌّ عن أصل الخلقة؛ فهو طارئٌ لا أصالة له، ولا سلطان. يطارده الله، والله هو الحق ـ ويقذف عليه بالحق فيدمغه. ولا بقاء لِمَا يطارده الله، ولا حياة لِمَا تقذفه يد الله فتدمغه.
وإنّ هلاك من يعاند الحق ليس محصوراً في الموت الجسدي، بل هو أوسع مدى وأعمق أثراً: هو هلاك سياسي، واقتصادي، وفكري، وهلاك في بنية النفس ذاتها. فمن يعاند الحق يزرع في داخله تناقضاً لا يهدأ، وتتحوّل نفسه إلى ساحة صراعٍ داخليٍّ يستهلك قواه، فيذبُل وإن بدا حيّاً. ومن هنا كان الحق رحمةً لمن يُصغي له، وسيفاً على من يجحده.
والحق لا يُقاس بمصالح عابرة، ولا يُلوَّن بميولٍ فئويةٍ ضيّقة، بل هو أفقٌ يتجاوز الإنسان ليعيده إلى اتّساعه الحقيقي. ومن هنا، فإنّ معاندة الحق ليست موقفاً عارضاً، بل قطعٌ للمسار الذي خُلق الإنسان ليسير فيه، واستدعاءٌ للهلاك، لأن الإنسان حينها يعادي ذاته قبل أن يعادي غيره.
نستنتج ممّا سبق: ضرورة أن يُربّي الإنسان نفسه على قبول الحق والسعي إليه، وأن يراجع ذاته قبل ردّ فكرةٍ أو موقف، وأن يسألها: هل رفضي نابعٌ من برهانٍ أم من هوًى؟ وأن يستمع إلى الآخرين بتجرّد يمكّنه من لمس الحقائق الغائبة عنه.
وأن يَزِن الأمور بموازين الحق لا بمقاييس المصالح الضيّقة. وأن يتخفّف من وَهم امتلاك الحقيقة المطلقة. وأن يكون شجاعاً في الاعتراف بالحق، وشجاعاً في التراجع عن الخطأ؛ فالتراجع أمام الحق انتصارٌ للذات لا هزيمة لها.
وبهذا المعنى يكون قول الإمام أمير المؤمنين (ع): "مَنْ أَبْدى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ" دعوةً إلى أن نرى في الحق مرآة وجودنا لا خصماً ننازله. فمن جعل الحقَّ بوصلةَ طريقه نجا، ومن بارزه هلك، وإن بدا في لحظةٍ ما منتصراً.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي