
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنِ انْقَطَعَ إِلى غَيرِ اللّهِ شَقِيَ وَتَعَنّى".
يتّفق معي قارئي الكريم أننا لم نأتِ إلى الحياة الدنيا من تلقاء أنفسنا، أي لم نُوجِدْ أنفسنا، فذلك مستحيل، إذ كيف للمعدوم أن يُوجِد نفسه؟! فلكي يُوجِدها يجب أن يكون موجودًا، ولا يكون موجودًا إلا إذا أوجد نفسه، وهذا محالٌ عقلًا وواقعًا.
فلا بدّ إذن من موجِدٍ لنا، وهذا الموجِد إمّا أن يكون مثلنا، وهذا مستحيلٌ أيضًا، لأن حكمه حكمنا؛ أو يكون الموجِدُ لنا مغايرًا لنا، موجودًا بذاته، لم يسبقه عدم، ولم يُوجِده موجِد، غنيًّا قادرًا بذاته، وهو الله سبحانه وتعالى، موجِدُ، وخالق، ومدبِّر كلِّ شيء، والمنعِم على كلِّ شيء.
وممّا لا شكّ فيه أنّ الله هو خالقُنا ومالكُنا ومدبِّرُ أمورنا، فنحن عباده وملكه، نعيش في مُلكه، هو مبدؤنا، وإليه معادُنا، قال تعالى: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴿البقرة: 156﴾. نحن محتاجون إليه بدءًا واستمرارًا وعَودًا، وعلاقتنا به لا تنقطع بعد إيجادنا، بل هي علاقة المخلوق بخالقه، وعلاقة الضوء بالنور، أي أننا أثرٌ من آثاره، ولا قيام لنا بدونه، فهو الحيّ القيّوم، ونحن الفقراء إليه.
ثم إنّ لنا نحن البشر نوعين من العلاقة بالله تعالى:
النوع الأول: العلاقة الاضطرارية التكوينية، وهي علاقة المحتاج ذاتًا بالغنيّ ذاتًا؛ فلما كان وجودنا بإرادته، كانت حاجتُنا إليه دائمة، ماديّةً كانت أم معنوية، روحيةً كانت أم جسدية، مستمرةً آنًا بعد آن، فلا سبيل إلى الانفصال عنه تعالى. وفي اللحظة التي تُسترجَع فيها أرواحَنا إلى الملأ الأعلى تنعدم الحياة فينا. ولعلّ إلى هذا يشير الحديث الشريف: "إِلَهي لا تَكِلْنِي إِلى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ أَبَداً، فَإِنَّكَ إِنْ وَكَلْتَنِي إِلى نَفْسي هَلَكْتُ" وهذا النوع من العلاقة يستوي فيه الكافر والجاحد والفاسق والمؤمن، إذ لا سبيل لأيّ مخلوق إلى قطعها.
النوع الثاني: العلاقة الاختيارية، وهي العلاقة التي يُنشِئها الإنسان مع الله اختيارًا، باعتباره إلهَه وربَّه، وهو عبدُه.فهي علاقة العبودية، وعلاقة الشكر للمُنعم.
هذا النوع من العلاقة الإنسان مُخيَّر فيه؛ فإن شاء بناها، وجنى ثمارها طمأنينةً في الدنيا وسعادةً في الآخرة، وإن شاء قطعها، فنال جزاءها ضلالًا وقلقًا في الدنيا، وشقاءً في الآخرة. قال تعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴿الإنسان: 3﴾.
وفي هذا السياق تأتي المعادلة التي يُنَبِّهنا إليها الإمام أمير المؤمنين (ع): فبمنطوقها، تفيد أنّ انقطاع الإنسان عن الله تعالى يؤدي به إلى الشقاء والعناء، وبمفهومها، تفيد أن انقطاعه إلى الله تعالى يؤدي به إلى الراحة والسعادة في الدنيا والآخرة.
والانقطاع في اللغة يعني الانصراف الكليّ إلى الشيء والانجذاب التامّ نحوه، يقال: انقطع إليه، أي انصرف بكُلّه إليه. فإذا انقطع الإنسان إلى الدنيا، وما فيها من مالٍ وجاهٍ وسلطانٍ وشهواتٍ، وأقبل عليها بكليّته، فقد تعلّق بما لا يبقى، وتشبّث بما يزول ويفنى، فيظلّ لاهثًا وراء سرابها؛ إن نال منها شيئًا وجده قليلًا، ولن ينال منها كلّ ما يرغب به، فيفقد الطمأنينة والسكينة، ويعيش حياته في كدٍّ وتعبٍ وضنك.قال رسول الله (ص): "إنّهُ ما سَكَنَ حبُّ الدُّنيا قلبَ عبدٍ إلّا الْتاطَ فيها بثلاثٍ: شُغلٍ لا يَنفَدُ عَناؤهُ، وفَقرٍ لا يُدرَكُ غِناهُ، وأمَلٍ لا يُنالُ مُنتَهاهُ".
فانظر – قارئي الكريم – إلى مَن يعبد المال: يجمع ويكدّ، يخاف الفقر، ويعيش في وهم الحاجة، حتى لو اغتنى. وانظر إلى من يعبد شهواته: يركض وراء لذّةٍ عابرة، فيزداد عطشًا كلما شرب، كمن يشرب من ماء البحر فلا يرتوي. وقد رُوي عن رسول الله (ص) أنه قال: "مَن أصبَحَ والدُّنيا أكبَرُ هَمِّهِ فَلَيسَ مِنَ اللَّهِ في شيءٍ، وألزَمَ قلبَهُ أربَعَ خِصالٍ: هَمّاً لا يَنقَطِعُ عَنهُ أبداً، وشُغلاً لا يَنفَرِجُ مِنهُ أبداً، وفَقراً لا يَبلُغُ غِناهُ أبداً، وأَمَلاً لا يبلُغُ مُنتَهاهُ أبداً"
في المقابل، من انقطع إلى الله تحرّر؛ لأنه يركن إلى مصدرٍ لا يتغيّر، ويستند إلى ركنٍ لا ينهار. والانقطاع إلى الله لا يعني الانعزال عن الدنيا، بل يعني تحويل الدنيا إلى مزرعةٍ للآخرة، وحياةٍ قريبةٍ من الله، أن يعمل ويسعى ويبني، لكن بروحٍ موصولةٍ بالله، فلا يستعبدنا ما في أيدينا، ولا يفتننا ما في أيدي الناس.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي