ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّة...

مَنْ طالَ عُمْرُهُ فُجِعَ بِأَحْبابِهِ

23:01 - October 17, 2025
رمز الخبر: 3502041
بيروت ـ إکنا: إنّ طولَ العمر ليس مجرّد زيادةٍ في عدد الأيام والسنين، بل هو مساحةٌ أوسع لملاقاة تقلُّبات الزمن. فكلّما امتدّت حياةُ الإنسان تكاثرت عليه تجارب الفقد: أبٌ يُواريه الثرى، وأمٌّ ترحل عن الدنيا، وولدٌ يصبح في عِداد الموتى، وصديقٌ يغيب في غياهب القدر، ورفيقُ دربٍ يختطفه الموت على حين غفلةٍ من القلب.

رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ طالَ عُمْرُهُ فُجِعَ بِأَحْبابِهِ".

حقيقة مُرَّةٌ، فالحياةُ الدُّنيا عجيبةٌ في أقدارها، لا تستقرُّ على حالٍ، ولا تُبقي أحداً في وضعٍ واحدٍ طويلاً. فهي متقلِّبةٌ بأهلها، تنقلهم من حالٍ إلى حالٍ، وتُبدِّل النِّعم كما تُبدِّل الفصول. لا تُعطي نعمةً إلّا وتنتزع أخرى، تُمنِح الإنسان شيئاً، ثم تأخذ منه شيئاً آخر. عطاياها تنهالُ عليه بقدر ما تسلبه، فما من عطاءٍ إلا ويقابله حرمان، وما من امتدادٍ في العمر إلا ويُثقِل كاهلَ صاحبه بامتحانٍ أشدَّ وقعاً من مشاقِّ الجسد، إنّه امتحانُ الفقد، فقدُ الأحبّة.

إنّ طولَ العمر ليس مجرّد زيادةٍ في عدد الأيام والسنين، بل هو مساحةٌ أوسع لملاقاة تقلُّبات الزمن. فكلّما امتدّت حياةُ الإنسان تكاثرت عليه تجارب الفقد: أبٌ يُواريه الثرى، وأمٌّ ترحل عن الدنيا، وولدٌ يصبح في عِداد الموتى، وصديقٌ يغيب في غياهب القدر، ورفيقُ دربٍ يختطفه الموت على حين غفلةٍ من القلب.
 
الفقدُ – إذن – ظلٌّ ملازمٌ للحياة. فمن يتمنّى طولَ العمر، عليه أن يستعدّ لحمل هذا العبء النفسي الثقيل؛ فطولُ العمر يعني بالضرورة كثرةَ الفقد، ليس هو مكسباً مطلقاً كما يظنّ الناس، بل امتحانٌ في الصبر، وقدرةٌ على احتمال الوحدة الوجوديّة التي تخلّفها خسارة الأحبّة.
 
غير أنّ الفجيعةَ – على شدّتها – ليست عبثاً؛ فهي تصوغ النفس من جديد، وتُعيد تشكيلها على مهلٍ وألمٍ، تُذكِّر الإنسانَ بهشاشته، وتُعلِّمه أنَّ التعلُّق بما مصيره إلى الفناء لا بدَّ أن يُورِثَ القلبَ وجعاً وأحزاناً. وهنا تبدأ رحلةُ الوعي: أن يُدرِك الإنسانُ أن لا بقاءَ إلا لله، وأنّ كلَّ ما سواه عابرٌ، وأنّ السكينة الحقيقيّة لا تُنال إلّا بالارتباط بما لا يموت، بالله تعالى.
 
ومن هذا المنظور، يصبح طولُ العمر عبئاً فقط على من يعيش الحياة بلا بصيرة، ولا فَهمٍ لحقيقتها، أمّا من عرفَ الحياةَ على وجهها الحقيقي، وأدرك أنّها دارُ نقصٍ وزوال، وأنّ كلَّ مولودٍ إلى موتٍ، وكلَّ باقٍ إلى فَقْدٍ، فإنّه يُحوِّل الفقدَ إلى سُلَّمٍ يرتقي به نحو التسليم والرضا بقَدَر الله وقضائه.
 
نستنتج من ذلك أنّ علينا أن نتعاملَ مع معادلاتِ الحياة بواقعيّةٍ وعمقٍ، وأن نفهمَ سُنَنها الحاكمة على مجرياتها، فنتصالح – كما يُقال – مع الموت، باعتباره أحد أعظم قوانين الوجود، إذ يقول تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴿26﴾ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴿الرحمن:27﴾ فإمّا أن نموتَ قبل أحبّائنا فيُفجَعوا بنا، أو يموتوا قبلنا فنُفجَعَ بهم. وليس في هذا ما يدعو إلى اليأس أو الانكسار، بل ما يدعو إلى الاستبصار، إلى توقّع الفقد بوصفه قانوناً من قوانين الحياة.
 
فلنُقدِّر وجودَ أحبّتنا، ونتعامل معهم تعاملاً جميلاً، فتكون علاقتُنا بهم قائمةً على الصدق والمودّة والرحمة، قبل أن يُغيِّبَهم أو يُغيِّبَنا الموت، ولا نُفرِط في التعلّق بهم، كي لا يتحوّل فَقْدُهم إلى فجيعةٍ قاسيةٍ تَستنزفنا، فكلُّ ما يموتُ ويفنى، ينبغي أن تكون علاقتُنا به متوازنةً رصينةً.
 
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي
captcha