ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّة....

مَنْ لانَ عُودُهُ كَثُفَتْ أَغْصانُهُ

23:28 - October 18, 2025
رمز الخبر: 3502063
بيروت ـ إکنا: إنّ الناسَ في حاجةٍ ماسّةٍ إلى كَنَفٍ رحيم، ورعايةٍ فائقة، وبشاشةٍ سمحة، ووُدٍّ يسعُهم، وحِلمٍ لا يضيقُ بجهلهم وضعفهم ونقصهم، إلى قلبٍ كبيرٍ يُعطيهم ولا ينتظرُ منهم عطاءً، يحملُ همومَهم ولا يُثقِلُهم بهمِّه، يجدون عنده دائماً الاهتمامَ والرعايةَ والعطفَ والرأفةَ واللينَ والسماحةَ والوُدَّ والرضا.

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ لانَ عُودُهُ كَثُفَتْ أَغْصانُهُ".
 
حين وصف اللهُ تعالى أخلاقَ رسولِه الأكرمِ محمّدٍ (ص)، تلك الأخلاقَ التي فتحت له قلوبَ الناس، ومكَّنته من إخراجِهم من ظلماتِ الجهلِ والقسوةِ والجلافةِ والعَصَبيّةِ القَبَلِيّةِ المقيتة، إلى رحابِ النورِ والهدى والأُخُوّةِ الإيمانيّة، قال سبحانه: وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴿القلم:4﴾. 
 
ثمَّ ذكر في آيات كريمة أخرى نزراً قليلاً من تلك الأخلاق السامية الرفيعة فقال عَزَّ وجَلَّ: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴿التوبة: 128﴾. 

ثم أفرد صِفة لِينه معهم وتواضعه لهم ورأفته بهم فقال:  فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ...﴿آل عمران: 159﴾. 
 
لقد أودع اللهُ في قلبِ نبيِّه (ص) رحمةً بالمؤمنين ليكونَ فيهم الأبَ الودودَ الرحيم، يرعى أبناءَه، ويسدِّدُ خُطاهم، ويقبل من مُحسنِهم، ويعفو عن مسيئهم. هكذا كان النبيُّ (ص) في مجتمعِ المسلمين: أباً لهذه الأسرةِ الكبيرة، يسعُها قلبُه الكبير بعطفِه وحلمِه ومودّتِه. وعلى هذا الخُلقِ الكريم صنعه اللهُ وطبعه، وبهذه الرحمةِ أرسلهُ رحمةً وهدًى للعالمين، وبهذا اللين تمكّن من استنقاذِ الناسِ من جاهليّتهم، وإخراجِهم من أوضاعِهم البائسةِ التعيسة. فالناسُ يألفونَ مَن يتألّفهم، ويُحسنُ إليهم، ويلقاهم بالصفحِ الجميل. وعلى العكسِ من ذلك، فمَن كان حادَّ الطبع، شَرِسَ الخُلُق، غليظَ القلب، لا يُقيلُ عثرةً، ولا يغفرُ زلّةً، فإنّه لن يجدَ من الناس إلا المقتَ والنُّفور.
 
إنّ الناسَ في حاجةٍ ماسّةٍ إلى كَنَفٍ رحيم، ورعايةٍ فائقة، وبشاشةٍ سمحة، ووُدٍّ يسعُهم، وحِلمٍ لا يضيقُ بجهلهم وضعفهم ونقصهم، إلى قلبٍ كبيرٍ يُعطيهم ولا ينتظرُ منهم عطاءً، يحملُ همومَهم ولا يُثقِلُهم بهمِّه، يجدون عنده دائماً الاهتمامَ والرعايةَ والعطفَ والرأفةَ واللينَ والسماحةَ والوُدَّ والرضا.
 
في هذا السياق تأتي المعادلة البديعة التي كشف عنها الإمام أمير المؤمنين (ع): "مَنْ لانَ عُودُهُ كَثُفَتْ أَغْصانُهُ" فالعودُ كنايةٌ عن الأصلِ أو الجوهرِ أو شخصيّةِ الإنسانِ ونفسِه وأخلاقِه، واللينُ هو المرونةُ الأخلاقيّةُ والتواضعُ والرّحمةُ وسَعَةُ الصدرِ وحُسنُ الخلق.

وكما تمثّل الأغصانُ في الشجرِ التفرّعاتِ والامتداداتِ، فهي في الإنسان تمثّل علاقاتِه بالآخرين، وتأثيرَه فيهم، والتفافَهم حوله، ومودّتَهم له، واستجابتَهم لأمره. فمن لانَتْ أخلاقُه وتواضعتْ نفسُه، انتشر خيرُه، وتعدّدت منافِعُه، وقويت صلتُه بالناس، وعظم أثرُه فيهم.
 
تكمنُ روعةُ هذه المعادلة في الربطِ السببيِّ العكسيّ الذي قد لا يتبادرُ إلى الذهن مباشرةً؛ إذْ إنّ النظرةَ الساذجةَ للشخصيّةِ المؤثِّرة قد تقول: "مَن اشتدَّ عودُه قويت أغصانُه"، أي مَن كان قاسياً صارماً انتصر وفرض وجودَه. لكنّ الإمامَ (عليه السلام) يقلبُ هذه المعادلةَ، ليقدِّم لنا الأمرَ على وجهٍ آخرَ تماماً: فالقوّةُ الحقيقيّةُ ليست في الصلابةِ التي تُواجِهُ الصلابةَ فتنكسر، بل في المرونة التي تتلقّى صدماتِ الحياةِ فتمتصُّها وتستمرّ.
 
الإنسانُ اللَّيِّنُ طبعاً وأخلاقاً، كالشجرةِ الطيّعةِ التي تقاوِمُ الرياحَ بالانحناء، فلا تُقتلعُ كما تُقتلعُ الشجرةُ اليابسة. هذه اللّيونةُ قوّةٌ نفسيّةٌ عظيمة، نابعةٌ من ثقةٍ وطمأنينةٍ، وليست ضعفاً ناتجاً عن خوفٍ أو عجزٍ. ومعها يُصبحُ الإنسانُ مهوىً لأفئدةِ الناس، وضيفاً دائماً في قلوبِهم، ومثلاً أعلى لهم، يبادلونه مودّتَهم وثقتَهم، ويتّجهون إليه في آمالِهم وتطلّعاتِهم، فتتشكّلُ حوله شبكةُ علاقاتٍ قويّةٍ، كثيفةٍ، ومثمرة.

ولا شكَّ أنَّ بين صلابةِ الإنسانِ في مبادئه ولينِه في أخلاقه فرقاً شاسعاً؛ فالإمامُ (عليه السلام) كان أصلبَ الناسِ في دينِه ومبادئِه، وأعدلَهم بعد رسولِ الله (ص)، وكان في الوقت نفسه ألينَهم قلباً وأرأفَهم بالناس. فإن كان اللينُ محموداً، فهو في الطبعِ والأخلاق، أمّا في المبادئِ والقيم، فينبغي أن يكون صُلباً راسخاً.

بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي
captcha