
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَن أَكثَرَ ملَّ".
ومعادلةٌ أخرى ينبهنا إليها الإمامُ أميرُ المؤمنين (ع)، تربط بين الإكثار والملل، سواء أكان مللاً شخصياً أم مللاً لدى الغير. وفيها دعوةٌ إلى الإقلال من الأشياء، أو الإيجاز في القول، أو الاقتصار على الواجب من الأمور، أو الواجب من العبادات إذا كان القلب في حالة إدبار. فالملل ليس عَرَضاً عابراً، بل هو داءٌ ينشأ من الإفراط في الأمور، سواء كانت مألوفةً أم غير مألوفة، وسواء كانت متعبةً أم مُجهِدة، أم كان فيها متعةٌ ولذّة. فإن الإكثار من جميع ذلك يؤدي إلى الملل بلا شك، وينتج عنه فقدانُ لذّةِ الشيءِ ومتعته، وجماله وبهائه.
إقرأ أيضاً:
الإنسانُ بطبعه كائنٌ ينفر من الكثير المملّ وغيرِ المفيد، وكلّما كان الشيء نادراً أو قليلاً أو عابراً كانت قيمتُه أعلى لديه، وازداد اهتمامُه به. أمّا إذا كثُر فتقلّ قيمتُه، ويفقد المرءُ الرغبةَ في الحصول عليه. فالنفسُ مجبولةٌ على تعظيم النادر والاستهانة بالمألوف؛ فكلّما كثُر الشيءُ في عين الإنسان هان، وكلّما قلّ غلا ثمنُه، وعظم وقعُه في القلب.
وانظر، قارئي الكريم، إلى كلام الأنبياء والأولياء والعباقرة والفلاسفة، تجده قليلاً موجزاً بليغاً حكيماً؛ فالقليل عندهم يُغني عن الكثير، واللفظُ الوجيزُ يحمل حكمةً تملأ الدنيا، مما يمنحه قيمةً عاليةً لدى الناس. وهذا يعني أنّ الإقلال أفضلُ دائماً ما دام يفي بالحاجة ولا يخلّ بها. ويقابل ذلك الإكثارُ الذي يؤدّي بالسامع إلى الملل والضجر، وهو أمرٌ مشهودٌ لنا جميعاً. فالإقلال لا يعني العجز، بل هو علامةٌ على النضج والتبصّر؛ إذ لا يُكثر من القول إلا من قلّ فكرُه.
ألا ترى، قارئي الكريم، أنّ الطبيعة قائمةٌ على توازنٍ دقيق، وأنّها تكوينا ترفض القلّةَ المُجحِفة والكثرةَ القاتلة؟ إنّ استمرار هطول المطر شهوراً متواصلة، أو عدم هطوله سنواتٍ متتابعة، يُجحِف بالأرض والطبيعة والحياة فيهما، ويُحدِث خللاً في نظام التكوين. والنبتةُ التي تُسقى كلَّ يوم، أو لا تُسقى إلا في فتراتٍ متباعدة، تموت.
وكذلك الإنسان: إن عاش في رخاءٍ دائم بَطُل إحساسُه بالنِّعَم، وإن قاسى الشدّةَ دوماً قسا قلبُه وذهب رجاؤه. ولولا تداوُلُ الأحوال ما عرَف أحدٌ طعمَ الراحة، ولا حلاوةَ الشوق، ولا لذّةَ اللقاء بعد الغياب؛ فإنّما تُعرَف الأشياءُ بأضدادها، وتُدرَك النِّعَمُ عند فقدانها، كما يُشتهى الماءُ بعد الظمأ، وتُطلَب الراحةُ بعد النَّصَب.
إنّ النفس الإنسانيّة محدودةُ الطاقة، لا تحتمل دوامَ الاندفاع في وجهٍ واحدٍ من الهمّ أو اللذّة. فإذا أُرهِقت بالاستزادة من الشيء — مهما كان ذلك الشيء محبوباً أو محموداً — تحوّل إلى عبءٍ على صاحبِه. فمن أكثر الحديثَ أملّ السامعين، ومن أكثر الصحبةَ بَطُلَت لذّةُ اللقاء. وهكذا يكون الإكثار، في جوهره، استنزافاً للطاقة والمشاعر، واستبدالاً للنافع من الأمور بما هو باهِتٌ لا روح فيه.
فلا بدّ للمرء أن يكون متوازناً، يعرف متى يجود بما لديه ومتى يمسك، ومتى يُقبِل ومتى يُدبِر. فالإقلالُ يُنقّي، والإيجازُ يُغني، والندرةُ تَسمو بالشيء وقيمته. أمّا الإكثارُ، فمهما بدا برّاقاً في ظاهره، فهو بابٌ للفتور، ومَنفذٌ إلى السأم والملل.
فاجعل لنفسك من كلّ شيءٍ حدّاً: في القول كيلا تَمَلّ، وفي العمل كيلا تَكِلّ، وفي اللذّة كيلا تَفسُد. واعلم أنّ من أكثر مَلَّ، ومن قلّل دام له الصفاء.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي