
مضمون هذه الجوهرة الكريمة تشهد له التجربة الإنسانية الطويلة، التي تكاد أن تكون معادلةً وإجراءً حتمياً يتخذه المرء بعد أن يمرَّ بتجربةٍ أو تجارب مع أشخاص آخرين؛ فينكشف له زيف صداقتهم، أو قلّة أمانتهم أو وفائهم، أو سوء أخلاقهم ونواياهم، أو تنكشف له أساليبهم التي لا تُميّز بين الأخلاقي منها وغير الأخلاقي، أو غير ذلك من الأمور التي تضطره إلى اعتزالهم، واجتناب العلاقة معهم، أو الإقلال منها قدر الإمكان.
هذا هو الإجراء الطبيعي الذي يلجأ إليه الإنسان إذا جرّب الناس، وامتحن مواقفهم، ولامس طبائعهم في المواقف الصعبة، وعرف حقيقتهم؛ فلا يبقى معهم كما كان من قبل، بل يعتزلهم فراراً من أخلاقهم وعاداتهم وسلوكياتهم، وتنزُّهاً عمّا هم عليه. وهذا يعني أن المعرفة – معرفةَ الناس – تغيّر صاحبها، وتدفعه إلى العزلة الواعية عنهم؛ إذ يرى ما لا يراه الغافلون، ويسمع ما لا يسمعه السادرون اللاهون العابثون، بعيداً عن ضجيج الحياة.
من يختبر الناس يدرك أن القلوب ليست كما تُظهر الألسن، وأن الظاهر كثيراً ما يكون على النقيض من الباطن، وأن الأصدقاء ليسوا جميعاً كما يظنّ أو يرغب. وعندما يكتشف الإنسان هذه الحقيقة، يتبدّل ميزانه في التعامل؛ فلا يندفع في عواطفه ومشاعره وعلاقاته كما كان، بل يصبح أكثر هدوءاً وعمقاً وبعداً في النظر، وأكثر صدقاً مع نفسه ومع غيره، فيرى سلوته في العزلة، وراحته في الإقلال من الصداقات، وسكينته في الخلوة مع نفسه ومع الله تعالى.
يُدرِك قارئي الكريم أن هذا الأمر قد وقع لنا جميعاً، خصوصاً لمن تقدّم بنا العمر، وخبرنا الحياة والناس؛ حيث أصبح الواحد منا أكثر اتزاناً في علاقاته، وأكثر وعياً في إقامتها وتأسيسها، وأصدق في التعامل والتواصل، وأكثر ميلاً إلى العزلة والهدوء والأنس مع كتاب، أو عبادة، أو ممارسة هواية.
وما سبق – قارئي الكريم – ليس فيه دعوة إلى اعتزال الحياة والمجتمع، ولا إلى القطيعة مع الناس والعيش وحيداً، وإنما هو تقريرٌ لحقيقةٍ مشهودة، وخيارٌ يلجأ إليه معظم الناس. وإلا فإن المؤمن لا يعتزل الحياة، ولا يعتزل المجتمع ما دام قادراً على أن يؤدي فيه دوراً أو يقدّم فيه خدمة. لذلك أفهم العزلة على أنها لا تعني الانطواء على الذات، ولا الانقطاع البدني الدائم بحيث لا يرى المرء الناس ولا يراه الناس، بل هي ترقٍّ في وعي الإنسان وبصيرته، وقدرته على التمييز بين الناس، وتصنيف من يمكن البقاء على علاقة معه ممن يجب اعتزاله واجتنابه، مع عدم التأثّر بما يفكّر به الناس ويدعون إليه من أفكار وقيم. وهذا يعني أن يكون الإنسان مع الناس جسداً، ولكن بقلبٍ نقيٍّ متيقّظٍ لا يخدع بالمظاهر.
إن الذي يختبر الحياة بوعيٍ وبصيرة لا يخرج منها كما دخلها، بل يخرج وقد هذّبته التجارب، وصقلته الأيام، وجعلته يعرف أن الصفاء لا يعني الغفلة، وأن الحذر لا يعني الجفاء.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي