ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّة...

مَنْ أَظْهَرَ فَقْرَهُ أَذَلَّ قَدْرَهُ

22:53 - November 16, 2025
رمز الخبر: 3502456
بيروت ـ إکنا: إنّ الفقر في جوهره ليس عيباً، ولا نقصاً في الكرامة، وليس مانعاً أبداً من التكامُل والتَّرقي المعرفي والأخلاقي، بل قد يكون دافعاً للإبداع، مُفجِّراً للطاقات، ومُولِّداً للنهوض والتغيير.

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ أَظْهَرَ فَقْرَهُ أَذَلَّ قَدْرَهُ".
 
الفقر في جوهره ليس عيباً، ولا نقصاً في الكرامة، وليس مانعاً أبداً من التكامُل والتَّرقي المعرفي والأخلاقي، بل قد يكون دافعاً للإبداع، مُفجِّراً للطاقات، ومُولِّداً للنهوض والتغيير.

ولقد كان ـ وما يزال ـ معظم الأنبياء والأولياء والمصلحين والعباقرة والفلاسفة والمفكرين والمبدعين والثوّار والأبطال في الأعم الأغلب من الفقراء، ولعل بعضهم لم يحصل على قوته وقوت عياله لأيام أو لأشهر.

والحقيقة أن الفقر هو الأصل، والغِنى هو المرحلة التالية، ناهيك عن الثراء الذي هو استثناء؛ فالإنسان كموجودٍ ممكنٍ فقيرٌ ذاتاً، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. وإنه ليولد فقيراً، ثم قد يثرى فيما بعد، وقد يقيم الفقرُ عنده كخليلٍ لا يفارقه، كما أنه يتقلّب في أحواله بين الغنى والفقر، والفقر والغنى.
 
على أن الفقر والغنى أمران نفسيّان في الحقيقة؛ يشهد لذلك أن كثيراً من الأغنياء قد يعيشون حياة الفقراء، لا من تواضع أو زهد، بل من بخلٍ وخوفٍ من ذهاب أموالهم بالإنفاق منها. وبعض هؤلاء قد يُقطِّرون ماء وجوههم تذلّلاً لهذا الزعيم أو ذاك الثري، رجاء أن يفوزوا بعطيّة، أو مشروع، أو مبلغٍ من المال. ومعظم هؤلاء يعيشون الحياة بنَهَمٍ لا يُشبعه شيء، وقلقٍ دائم مما قد تُفاجئهم به الأيام والأحداث، وكثير منهم لا ينام قريرَ العين لانشغال ذهنه بالخوف على المال أو بمراكمة المزيد منه. في حين نجد الكثير من الفقراء ـ وربما يكونون مُعدَمين ـ أهلَ نخوةٍ وشهامةٍ ونُبلٍ وكرمٍ وجودٍ وعطاءٍ وتضحية، ونجدهم واثقين من أنفسهم، معتزّين بإنجازاتهم، لا يُذلّهم فقرٌ ولا تنال منهم الحاجة.
 
وما سبق ـ قارئي الكريم ـ لا يعني أن الفقر أفضل من الغِنى، فالغِنى أفضل من الفقر بلا نقاش؛ لكن الفقر المادي ليس عيباً، ولا ينال من كرامة الإنسان، ولا يمنعه من التطوّر والإبداع. والإمام أمير المؤمنين (ع) في قوله: "مَنْ أَظْهَرَ فَقْرَهُ أَذَلَّ قَدْرَهُ" لا يتحدث عن الفقر بوصفه أمراً مذموماً أو ممدوحاً، وإنما يتحدث عن إظهار الفقر، أو ما يُطلق عليه مصطلح التفاقر. ونظره هنا إلى معايير الناس لا معايير الله تعالى؛ فالله تعالى لا يزن الإنسان بميزان ما يملك من أموال، وإنما يزنه بميزان التقوى فحسب، قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴿الحجرات:13﴾ أمّا الناس عموماً فمعيار الكرامة عندهم هو الجاه والسلطان والثراء، وما يملكه المرء من متاعٍ وعقار، وما لديه من تأثير في أوساط المجتمع. بل إنهم ليتقرّبون من الثري والقادر وصاحب الجاه والسلطة، ويجتنبون الفقير والعاجز والضعيف، وقد يفرّون منه. لذلك يتحدث الإمام أمير المؤمنين (ع) عن إظهار الفقر أمام الناس؛ لأن الذي يُظهِر فقره يُظهِر لهم ضعفه وعجزه، فيجتنبوه، وينفروا منه، وقد يزدرونه لضعفه وعجزه، وربما يستغلّ بعضهم فقره، فيأخذه في مساراتٍ مظلمة قاتمة.
 
وقد يكون المراد من إظهار الفقر هنا الاستجداء باللسان أو بالحال، أي أن يجعل الإنسان حاجته وسيلته للقبول، ومادّةً لاستدرار العطف، وفي ذلك تفريطٌ بالقَدْر والمكانة والكرامة التي تقوم على الاستغناء عن الآخرين، والعِزّة بين أيديهم.

ولا يقتصر إظهار الفقر على الجانب المادي، بل يتسع ليشمل صُعُداً أخرى لا يقلّ الضرر فيها عما سبق؛ فكم من شخصٍ يُظهِر فقره العاطفي على وسائل التواصل، يشكو الوحدة تارةً والخذلان تارة أخرى، ينتظر بعض التضامن من الجمهور أو حفنةً من الإعجابات. وكم من شخصٍ يُظهِر فقره الأخلاقي بتزلّفه لأصحاب النفوذ، يهرق ماء وجهه بين أيديهم رجاء منفعةٍ أو مالٍ أو منصب.
 
لذلك يريد الإمام (ع) أن يربّينا وسوانا على عزّة النفس، والحرص الدائم على الكرامة حتى في أصعب الظروف وأشدّها قسوة؛ فالفقير حقّاً ليس من قلّ ماله، بل من فقد عِزّته ولم يحفظ كرامته. والكرامة رأس مالٍ لا يُعوَّض؛ فمن يُظهر فقره بما يُهين ذاته يستهين بأعزّ ما يملك، ويصبح طُعمةً لكل آكل.

بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي
captcha