
خلافًا لما هو مستقرٌ في أذهان الناس من أن الانتصارات الحاسمة لا تكون إلا بتدخل إلهي وبعث رباني، نرى أن هذا الفهم ناشيءٌ عن التباس في فهم الرؤية الدينية لحقيقة المعجزة، فهذه تارة تكون بمثابة الحجة لتصديق
الرسول الأعظم(ص)،كما جاء في ما عرض له
القرآن الكريم من بيِّنات وفرقان، وطوراً تكون
المعجزة في نصرة الدين، كما كان يجري في بدر وأحد والأحزاب، حيث نجد القرآن يعرض لنا نماذج وسنن في نصرة دينه،كبعث النعاس، والمطر، وإرسال الملائكة لتثبيت القلوب.
إنها سنن إلهية في نصرة الحق، ولم تكن مجرد معجزات خاصة بالأنبياء(عليهم السلام)، بل هي حاضرة دائماً إذا ما توفرت لها الأسباب والمعطيات، ولعله من أعظم الأدلة على ما نذهب إليه هو ما حصل للنبي يونس(ع) حينما استغفر ربه، فقال تعالى في الآية الـ142 حتى الآية الـ144 من سورة الصافات: "فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴿142﴾ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ﴿143﴾ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿144﴾".
إقرأ أيضاً:
لقد بيّن القرآن أن النبي يونس(ع) نجى بالتسبيح، ولأجل أن لا نفهم ذلك على أنه خصوصية للنبي(ع) قال تعالى:"وكذلك نُجي المؤمنين".
وهكذا،فإن معنى أن يبعث العباد، وأن يتحقق الفتح المبين لمن أمن بالله ورسله، بالتوفر على كل الأسباب اللازمة للنصر،معناه العقل عن الله تعالى،بحيث يعيَ الناس حقيقة الموقف الإلهي اتجاه نصرة دينه وعباده المؤمنين،إذ قد جاء في النبوءة القرآنية أن الله سيبعث العباد المؤمنين على بني إسرائيل،كما أثبتنا في بحوثنا،وهو بعثٌ ظاهر تؤكده القرائن القرآنية،بخلاف ما زعمه علماء التفاسير من أن البعث له ظهور في العباد الكفار،فأخرجوا النبوءة عن سياقها، وعما تنطوي عليه من دلالات مستقبلية!، فقالوا: بخروج النبوءة من زمان المسلمين، ليجعلوا منها ماضيًا سحيقًا! رغم كل ما تفيده في دلالتها اللغوية والبلاغية، فضلًا عن ما تعنيه الآيات من وعد مستقبلي!
فالنبوءة ظاهرة في العباد المؤمنين، وفي مستقبل المسلمين، وهي تؤكد على بعث العباد على بني إسرائيل، وهذا ما ينبغي أن يكون موضع اهتمام العلماء في عصرنا،لما في ذلك من فوائد كثيرة على الأمة في سياق صراعها مع بني إسرائيل وكل مَن يُظهر الولاء لهم في حياتنا المعاصرة!
فالله تعالى يبيَّن أن النصر من عنده، كما قال تعالى: "وليّنصُرنّ الله من ينصُرُه". فإذا كان لا بد من فهم حقيقة الصراع مع العدو الصهيوني اليوم، فسبيل هذا الفهم، هو العقل عن الله تعالى، واستيعاب حقيقة عمل السنن في نصرة الدين، فلا يقال: إن ما عرض له القرآن في النصر والهزيمة، هو خصوصية نبوية لا تتكّرر، بل هو قابل للتحقق في كل زمان ومكان، وحيث تتوفر له الظروف والأسباب،فإذا وجد العباد المؤمنون، فسيكون النصر حليفهم، وذلك لمكان وعد الله تعالى بالنصر، فالله لا يُخلف وعده،وهو غالب على أمره، فما بالنا نعرض عن نبوءة ربنا، لنجعل منها تاريخًا، أو حدثًا ماضيًا!؟
وكل ما في النبوءة يرشد إلى المستقبل، بدءًا من اللغة، وانتهاءً بالسياق وحجية الظهور، وغير ذلك مما تنطوي عليه من دلالات في سياق الحديث عن المجيء لبني إسرائيل لفيفًا! لا شك في أن علماء المسلمين أخطأوا في ما ذهبوا إليه في تفسير الآيات، فهم لم يكترثوا للتمييز بين ما هو معجزة إلهية، وبين ما هو سنة إلهية، وكانت نتائج البحوث صادمة لجهة ما أكدوا عليه من سياقات تاريخية، جعلتهم يفصلون بين النص والواقع، ويتجاهلون حقيقة الموقف القرآني اتجاه بني إسرائيل، رغم أن القرآن لم يترك نافذةً إلا وفتحها ليُّبين للمسلمين حقيقة الموقف في ما ينبغي أن يكونوا عليه من حذر واستعداد لمواجهة التّطرف الإسرائيلي!
فالصراع اليوم على أشدّه والنبوءة لا تتحدث عن صراع محدّد في جغرافيا ثابتة، بل هي تذهب بعيدًا في طرحها للنفير الإسرائيلي في العالم!فليست فلسطين وحدها هي موضع نظر النبوءة، وإنما العالم الإسلامي كله داخلٌ في سياقها، وكاشف عن تحققاتها! وذلك إنما نذهب إليه لما هو معلوم من تمدّد الصراع مع بني إسرائيل ومَن والاهم في الرؤية والهدف والطغيان، فضلًا عن الولاء العقدي.!
فالقرآن يكشف لنا عن دخول المسجد في بعث العباد، وهذا يمكن فهمه في سياق التأكيد القرآني على مركزية المسجد في الصراع مع بني إسرائيل، وليس في عالمنا اليوم ما يثبت لنا ظهور هذه المركزية، فإذا قيل: أليست فلسطين تشكّل جوهرًا في هذا الصراع، قلنا: إن العالم الإسلامي كله موضع اختبار لبعث العباد،لكونهم معنيين بتحرير كل البلاد الإسلامية، وهذا ما يقتضي إحداث تحوّل جوهري على مستوى المركز،بكل ما يعنيه من مسجدية لما هو معهود عند المسلمين من ذلك،بدلالة أن الإسراء له مبدأ وله منتهى!
فإذا كنا اليوم في صراعنا مع بني إسرائيل ومن والاهم، نعيش ثورة البعث والفتح معًا، فهذا إنما هو حاصل بسبب ما استقرّت عليه الأمة الإسلامية من تحوّل ،سواء على صعيد المقاومة أو على صعيد ما آلت إليه أوضاع بني إسرائيل من تحوّل واضطراب وجودي !فلننتظر الأيام المقبلة التي ستشهد أعظم تحولات الفتح المبين، ليس على مستوى فلسطين فحسب، بل على مستوى البلاد الإسلامية كلها،وذلك لما هو معلوم عن حقيقة بعث العباد لتحرير كل البلاد، وهذه سنةٌ إلهية تؤكدها تجربة المسلمين الأولى في عهد الرسول(ص)،ولا تزال النبوءة حية في ما تؤكد عليه من هلاك وتتبير لحضارة الغرب وبني إسرائيل معاً.
بقلم أ.د.فرح موسى:رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان