
إن الله تعالى كرّم بني آدم، وحملهم في البر والبحر، ورزقهم من الطيبات لكونهم عقلاء، خلفاء، أحراراً،أمناء،ولم يكن لهم هذا التكريم لمجرد أنهم يأكلون ويشربون فحسب، بل لما تميزوا به من وعي وعلم وهداية، ويكفينا تدبّرًا بما أجاب الله به الملائكة حينما افتخروا على آدم بقولهم لله تعالى:"ونحن نسبح بحمدك ونقدّس لك…"، وكان جواب المولى عزوجل،"وعلّم آدم الأسماء كلها"،فعرّفهم أن الفضيلة بالعلم أتمُ من الفضيلة بالفعل، فهم،أي
الملائكة،كانوا أكثر فعلاً وأقدمه، وآدم كان أكثر علماً وأوفره، فظهرت فضيلته ومرتبته على الملائكة، فهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
لقد تميّز بنو آدم بفضيلة
العلم والتقوى، وعلى هذا قامت الدنيا واستقامت أن تكون للناس تمايزات الخلق والوجود،وتفاعلات التدبير والاجتماع والسياسة،فلا ينبغي أن يكون القائم بأمورهم جاهلًا بالسياسة والتدبير،لأنه من معاني السياسة التربية،والعناية،والهداية،والقيام على الشيء بما يصلحه،فإذا لم يكن للسياسة هذا المعنى،كانت ضلالاً، وتيهاً عن المقاصد الحقة التي يسمو بها الإنسان،ولهذا قيل :إن الإنسان سياسيٌ بطبعه،كما هو مدني!
إقرأ أيضاً:
فما بالنا نرى من أهل السياسة هذا التكاذب على الناس ممن أعطوه ثقتهم، وأوكلوا إليه مهام النطق والتدبير باسمهم!؟ إن أخطر ما نعايشه اليوم من تمامية الضلال، أن ينبري كثير من أهل السياسة إلى الكلام عن الفضيلة والسمو الديني والسياسي في لحظة الخيانة العظمى!
فهؤلاء ينطقون باسم التكريم الإلهي لبني آدم على أن سياستهم ترضي الله تعالى، فيتحدثون عن السلام مع أعداء الله، ويسوّغون ذلك باسم الإلهية تارةً،كما يفعل بعض المتدينين، وباسم الواقعية طورًا، وكأن العدواة لم تكن في أصل الاستخلاف الآدمي!
حين قال الله تعالى:" بعضكم لبعض عدو،ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين". فالسياسة حين يقوم بها الحمقى،الذين يجهلون معنى التحقق في الوجود،وحقيقة الاستخلاف في الأرض، تصبح مقابلةً للتعقل والوعي، ولهذا نجد أكثرية الذين ضمُرت عقولهم،هم الذين يعملون في السياسة،بخلاف ما تأسست عليه حقائق الوجود! ويأتي في طليعة هذه الحقائق،أن إبليس وذريته،هم أعداء لبني آدم،فإذا لم تكن الآدمية شيئاً مجردًا،فكذلك الإبليسية،فهي شيء واقعي أيضاً،متميّز بالضلال والعدواة،فما معنى أن نجعل من العدو صديقًا،ومن الصديق عدوًا!؟
إنه الضمور العقلي في عالمي الوعي والسياسة،ولعل من أكثر ما يدل على ذلك،هو الدعوة إلى مصالحة إبليس وذريته في العمل السياسي،وكأن الله تعالى لم يقل "بعضكم لبعض عدو"! إن الحمق المعرفي،هو الذي أدى بالكثيرين منا إلى أن يكونوا حمقى في السياسة،بدليل ما نسمعه من حين إلى آخر،بضرورة عقد معاهدة دفاع مشترك مع الولايات المتحدة،أو لا بأس في مفاوضة العدو مباشرةً،أو من خلال المشاركة المدنية في المفاوضات،إلى غير ذلك مما يدعو إليه حمقى السياسة من فصل بين أمريكا والعدو الصهيوني!؟
إنها أضحوكة آخر الزمن أن تكون السياسة تعبيرًا شيطانيًا،وهذا ما ينافي الآدمية تمامًا من حيث كونها استقرت في الأرض على أساس معاداة الشياطين،وعدم التحالف معهم،بل وعدم موالاتهم،لأن من يوالي الشيطان بنص كل شرائع السماء،كان شيطانًا،"ومن يتولهم منكم،فإنه منهم.."!
إن ما يؤسف له ويعجب منه،أن تسوّغ السياسة على أنها دين،وأن تضمر العقول لدرجة الموت عن وعي ما يراد بنا في ضوء حقيقة الاستخلاف! فالآدمية والتكريم لها كان ولا يزال منطلقه التعقل الديني والسياسي،أما أن تتحول السياسة،لتكون حليفةً للشيطان،فهذا مما لا تقرّه حقائق الإيمان.ويبقى على حمقى السياسة،وكل من ضمر عقله عن وعي عدوه،الاستمرار في تلبيس المواقف على الناس، طالما أن الوعي الجمعي قد ضمر حتى الموت في تعقّل معنى الإيمان،إذ لم يعد متاحًا للناس إلا التصفيق لحمقى السياسة في ما يدعون إليه من سلام مع الشياطين!
بقلم أ.د فرح موسى:ر ئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات في لبنان