
في هذه الجوهرة الكريمة يقدِّم لنا الإمام أمير المؤمنين (ع) واحدةً من المهارات المهمة التي ينبغي أن يتقنها كلٌّ واحدٍ منّا، ألا وهي مهارة الاعتبار والوعي، والاستفادة من التجربة الشخصية وتجارب الآخرين، بوصفها شرطاً ضرورياً للحذر وتجنُّب المخاطر والأضرار.
والاعتبارُ لغةً مأخوذٌ من العُبور، أي الانتقال من حالٍ إلى حال، ومن ظاهرٍ إلى باطن.
إقرأ أيضاً:
قال الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن: "الاعتبار: هو الانتقال من مشاهدة الشيء إلى معرفة ما وراءه، والعبور من الظاهر إلى الباطن".
فهو إذن عمليةٌ ذهنيةٌ عقليةٌ ونفسية، ينتقل فيها الإنسان من رؤية الحدث إلى إدراك العِبرة منه، ومن مشاهدة التجربة إلى استنباط معناها.
أمّا في الاصطلاح القرآني، فالاعتبار يعني: التأمّل العميق في سنن الله في النفس والمجتمع والتاريخ، لاستخلاص الدروس التي تهدي الإنسان وتقوم سلوكه.
وقد دعا القرآن الكريم في كثيرٍ من آياته إلى الاعتبار بما جرى على الأقوام السالفة والأمم الغابرة، فقال: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴿الحشر:2﴾
فالآية الكريمة تقصُّ علينا مصيرَ أولئك المعاندين المتآمرين على رسول الله (ص)، وتدعونا إلى التفكُّر في مصيرهم ومصائر غيرهم، والتأمُّل في آثارهم، والتعلُّم مما جرى عليهم، وكيف كانوا، والأسباب التي أدّت بهم إلى ما صاروا إليه من عاقبة، كي نتجنَّب ما أوقعوا به أنفسهم.
وإنّ للمرء أن يعتبر من تجاربه الخاصة: من نجاحاته وإخفاقاته، ومن أخطائه وصواب قراراته؛ فيتأمّل في أسبابها ونتائجها، ويُمعن النظر فيها، ويتعلّم منها للقادم من أيامه، وهذا ما تقدّمه له محاسبة النفس.
وله أن يعتبر من تجارب الآخرين، فينظر في حياة الناس والمجتمعات، فيتعلّم منها دون أن يضطر إلى خوض تلك التجارب بنفسه. وفي هذا يقول الرسول الأكرم (ص): "السعيد من وُعِظَ بغيره، والشقي من وُعِظَ بنفسه"، أي إنّ السعيد هو من اعتبر بما جرى لغيره فاستغنى عن التجربة المؤلمة بنفسه.
وله أيضاً أن يقرأ ماضي الناس وتاريخ الأقوام والأمم، قراءةً واعيةً نقدية، يرى فيها سنن الله الجارية: كيف تنهض الأمم وتتنمّى وتتقدّم، وكيف تتراجع وتتقهقر وتسقط وتضمحل. وهذا هو أعمق أشكال الاعتبار، على أن يكون الاعتبارُ جماعياً، بمعنى أن تعتبر الجماعة أو الأمة بما جرى على الجماعات والأمم الغابرة.
واعلم، قارئي الكريم، أنّ العِبَر كثيرة، كثيرةٌ جدّاً، لا قدرة على إحصائها؛ ففي كل حركةٍ لشخصٍ عِبرة، وفي كل حدثٍ يصيب جماعةً أو أمةً عِبرة. ولكن المعتبرين قليل، لأن الاعتبار يحتاج إلى شروط نفسية ومعرفية وروحية تمكِّن الإنسانَ من تحويل التجربة إلى وعي.
فالاعتبار يحتاج إلى بصيرة نافذة، ووعي دائم، وعقلٍ هادئٍ لا يستعجل الأحكام، ومداومةٍ على محاسبة النفس، ومراجعةٍ دائمة للتجارب الخاصة والعامة، ونيةٍ صادقة في الإفادة منها، ووعٍ بسنن الله في الحياة.
فمن اعتبر بتجاربه أو بتجارب الآخرين حَذِر من الوقوع في الأخطاء نفسها، ولم يكرّر ما وقع فيه الآخرون، لأنّ الإنسان الواعي ينظر إلى التجارب بوصفها دروساً عملية تزيده وعياً ومعرفةً وبصيرة.
بقلم الباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي