
ولقد اختلف الموقف التفسيري بين قائل بأن التأويل هو التفسير. وقائل: إن التأويل يختلف عن التفسير ويتجاوزه إلى العلم بحقيقة الأشياء، وذلك إنطلاقاً مما أسس له
القرآن الکریم في معنى التأويل والتفسير،حيث نجد أن آيات التأويل القرآنية لا ترى في التأويل تفسيراً لأن التفسير له معنى الكشف والإبانة، وأين التأويل من ذلك؟
فالطبري مثلاً في تفسيره "جامع البيان عن تأويل القرآن" عبر عن أهل التفسير بأهل التأويل، وهذا كما يعلم العلماء اصطلاح مستحدث بعد عصر النزول بمئات السنين،والذين تابعوا الطبري في تفسيره وخلطوا بين التفسير والتأويل تسالموا على ذلك من منطلق أن في القرآن آيات متشابهات مبهمات لا يعلم بتأويلها إلا الله والراسخون في العلم، وقد رأوا أن العلم بهذه الآيات والوصول إلى مراداتها يعادل التفسير بما هو كشف عن مدلولاتها وهذا ما عبر عنه صاحب تفسير المنار،بقوله:"إن التأويل اشتهر بمعنى التفسير مطلقاً،أو على وجه مخصوص،ولكنه جاء في القرآن بمعانٍ أخرى".
إقرأ أيضاً:
ومما ينبغي العلم به أيضاً هو أن الذين فسّروا التأويل بالتفسير وخالفوا منهج القرآن بذلك، هم خالفوا أهل اللغة أيضاً لكونهم يجمعون،كما جاء في "العين"، ولسان العرب، والصحاح، على أن التأويل من آل الشيء:رجع. والأوْل:المراجعة. وأوّل الحكم:أي أرجعه الى أهله. وقد صرح ابن فارس أن الهمزة والواو واللام أصلان: ابتداء الأمر وانتهاؤه. وقال الخليل: الأيِّل الذَّكر من الوؤل ،وإنما سُمَّى أيِّلاً لأنه يؤول إلى الجبل يتحصَّن..وآل يؤول أي رجع..وهكذا، فإن التمييز بين التأويل والتفسير يحتاج إلى تدبّر عميق في الدلالة القرآنية حتى لا يتم إسقاط الرأي التفسيري الملتبس على المعنى القرآني كما هو ديدن الكثيرين من علماء التفسير!
وملخص الكلام-المفتاح-لمن أراد تدبّراً، هو إحصاء الآيات في سياقاتها القرآنية المختلفة، فهي وردت في القرآن في خمسة عشر موضعاً، منها ما جاء تأويلاً في الدنيا ومنها ما جاء في الآخرة ،فما حدثنا القرآن عن تأويله وإرجاعه إلى ما آل إليه الشيء حقيقة في الوجود أو رد إلى مآله وعاقبته في الدنيا، هو ما عرض له القرآن في تأويلات العبد الصالح مع النبي موسى(ع)، وتأويل النبي يوسف(ع)، وسائر التأويلات التي أتى بها الأنبياء(علیهم السلام) في الحياة الدنيا، فجاءت تأويلاً حقيقياً للوقائع والأحداث كما علمهم الله تعالى،فهم لم يفسروا الآيات وإنما جاؤوا بها بما يفيد الحق الذي لا لبس فيه ولا احتمال؛ لعلمهم بعاقبة كل الأفعال وما تؤول إليه حقيقةً.
وهناك نوع من التأويل استعصى فهمه على أولي الألباب، وما استطاعوا عليه صبراً، ومنه ما جاء تأويله برده إلى حقيقة المراد منه كما في تأويل النبي يوسف(ع) وقد بيّن القرآن معناه على أنه من تعليم الأحاديث وما كان تعليماً من الله تعالى لا يكون تفسيراً، بل رداً للأمر الى عاقبته في الوجود، بحيث يستفاد منه في تحقيق الهداية.
وهناك نوع من التأويل الذي يبعد حتماً عن أن يكون تفسيراً، وهو الذي جاء به القرآن عن القرآن،كما في قوله تعالى:"هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا.."وقوله تعالى:"بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذَّب الذين من قبلهم.."
فالآيات القرآنية تتحدث عن عواقب الأمور، وقد جاءت في سياق أخروي ولا يستفاد منها أنها تتحدث عن محكم ومتشابه في الآيات، بل تنظر إلى القرآن بمجموع آياته على أن يكون له التأويل للمحكم والمتشابه معاً، كما أفاد الطباطبائي في تفسيره الميزان.
إن هذا النوع من التأويل مفيد لحقيقة الظهور بحيث يعلم كل الناس عواقب الأمور ما صدّقوا به،وما كذّبوه،وخصوصاً أولئك الذين نسوه من قبل، والسياق كما نلاحظ هو سياق الآخرة ،الذي يأتي بالتأويل على تمامه بلحاظ كون الآية الأخيرة قد توعدت أهل مكة الذين كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ويكون لهم عاقبة ما وعدوا به من العذاب يوم يأتي تأويله،بدلالة قوله تعالى:"فانظر كيف كان عاقبة الظالمين".
وكيف كان، فإن غالبية أهل التفسير يرون التأويل بمعنى العاقبة،ولكن منه ما تظهر عاقبته في الدنيا ومنه ما يظهر في الآخرة،إلا أن العلم بالتأويل لا يكون لغير أهله.وبما أن القرآن له أهل خوطبوا به،فهم عالمون بتأويله،سواء ما اختص علمه بالدنيا،أو اختص بالآخرة، على نحو ما بين القرآن، بقوله تعالى :"بل هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم،فلا يقال: إن علم التأويل منحصر بالله تعالى،كما استفاد بعض العلماء من قوله تعالى:"وما يعلم تأويله إلا الله". فسياق الآية يرشد إلى أن الذين في قلوبهم زيغ لا يهتدون إلى تأويله،وهم إنما يتبّعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، كما بينا في مبحث المحكم والمتشابه.
غاية القول: إن التدبر في القرآن غير تأويله، ولا بد من اعتماد التأويل الصادر عن أهله، ولم يظهر من تجارب الأنبياء والأولياء أن جاؤوا بالتأويل على نحو التفسير لما بين التأويل والتفسير من خصوصيات وفوارق، على اعتبار أن النسبة بينهما هي نسبة العموم والخصوص المطلق، فكل تأويل تفسير،وليس كل تفسير تأويلاً.
وإذا كان الله تعالى قد توعد المكذبين بالتأويل وبما يكون لهم من عواقب الأمور،ولا بد من انتظار التأويل ،فإن هذا مرشد إلى أن لهذا الكتاب تأويلاً بحسب ما له من حقيقة نورية تماماً كما كان لكل تأويل في الدنيا حقيقته المثالية التي قد لا ترقى لها عقول الناس ،وهذا ما لم يتعقله الكثيرون في تصديق الرؤيا للنبي إبراهيم(ع)، وما لم يتعقله النبي موسى(ع) من العبد الصالح.
فالتأويل حقيقة نورية ماثلة لا يقوى عليه في كل نتائجه وعواقبه إلا من امتحن الله قلبه للإيمان وصيّره من المطهَّرين ممن قربوا وكان المس منهم للكتاب مس الطهر والمعرفة والشمول في الكتاب المكنون.
بقلم أ.د فرح موسى: رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان