ایکنا

IQNA

رؤية قرآنية حول الناسخ والمنسوخ

11:42 - December 12, 2025
رمز الخبر: 3502780
بيروت ـ إکنا: إن القول بأن أخبار الآحاد والإجماعات والتواترات تنسخ القرآن، فهذا مما لا يليق بكتاب الله تعالى،لما بيناه من أن أحداً لايمكنه أن يأتي بمثله أو خير منه.إنه كلام الله المحكم الذي يسبح في فلك توحده وتمايزه عن كلام المخلوقين.

وكتب رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان  الدكتور فرح موسى في جواب منَ سأله، فما هي حقيقة ما تذهبون إليه من قول: "إن علم الناسخ والمنسوخ حال دون الفهم الصحيح للقرآن الكريم، وأنه كما فهمه كثير من العلماء، أدّى الى أن يكون القرآن محكوماً للرأي والقول بغير علم!؟"

إن الإجابة على هذا السؤال ستكون مقتصرة على أهم الملاحظات التي وصلتكم لئلا يطول بنا الكلام،ونقصر عن بلوغ المرام،فنقول: إن ما وصل إليكم لم يكن مجرد أسئلة تفتقر إلى المعالجة، وإنما كان تأسيساً لما ينبغي أن تكون عليه محاولات البحث في العلوم القرآنية في مراكز البحوث العلمية بعد أن استبد الرأي بهذا العلم لدرجة أنه منع الباحثين قديماً وحديثاً، من العمل خارج القوالب المعدة سلفاً للبحث!

ومختصر الكلام ما يلي: أولاً: إن ما شدّدت عليه كلمات المعصوم(ع) لجهة ضرورة هذا العلم تحاشياً للهلاك والإهلاك لا يستفاد منه إطلاقاً ما أخذ به العلماء من نسخ اصطلاحي،أو ما استقروا عليه من مباحث للنسخ في القرآن،بحيث تكون الآية منسوخة الآخر والأول ومحكمة الوسط،أو منسوخة على نحو التنافي بين الآيات!


إقرأ أيضاً:


وهذا ما يفترض إعادة النظر في أحاديث المعصومين(عليهم السلام) عن النسخ، وما يرمون إليه في حقيقة مقاصدهم؛باعتبارهم عيبة علم الله تعالى،ومعدن الوحي والرسالة.

ثانياً: لقد بيّن السيد الخوئي في مبحث الناسخ والمنسوخ أن النسخ بمعناه اللغوي كثر استعماله على ألسنة الصحابة، فكانوا يطلقون على المخصِّص والمقِّيد لفظ الناسخ.

ثالثاً: ثمة أمور ينبغي معالجتها مجدداً وهي ما يعرف بأنواع النسخ المستبدة والمتسالم عليها بين العلماء، ونعني بها: نسخ الحكم مع التلاوة. ونسخ التلاوة دون الحكم.ونسخ الحكم دون التلاوة. وقد مثّل العلماء لكل منها بما يفيد أنه لا يوجد قرآن محكم بين أيديهم على نحو ما يفترض أن يكون عليه القرآن من تقديس وإحكام!

فالذين قالوا بنسخ التلاوة والحكم معاً هم بالتأكيد رفعوا النصوص لتكون الرواية أساساً في الفقه والاجتهاد، وركنوا الى ضياع الكثير من الآيات بعد أن كانت تتلى في حياة الرسول الأعظم(ص)،ولكنها نسخت واستمر العمل بها على أمل أن تحشر في كتاب الله لاحقاً! وكلنا يعلم أن مؤدى هذا النسخ القول بتحريف القرآن.

والكلام هنا ذو شجون!؟ وكذلك القول بنسخ التلاوة دون الحكم،هو أيضاً مؤداه التحريف للقرآن؛ إذ كيف يمكن العمل بنصوص منسوخة؟ فالذين قالوا بذلك يرفعون الأدلة وهي عمدة الاستدلال،كما هو الحال في ما سمي بآية الرجم.

وهنا الحديث ذو شجون أيضاً! أما النوع الثالث بما هو نسخ الحكم دون تلاوة، فهو ما مثّلوا عليه بآية النجوى، ساهين عن أنها كانت للامتحان أقرب منها لحكم شرعي،لكونها لم تكن واجبة؛ وهي أقرب للنسخ اللغوي منها الى النسخ الاصطلاحي،كما أفاد السيد الخوئي في البيان...هذه هي المواقف التي استقرت عليها آراء العلماء وأدت الى إلحاق الضرر بالعلوم القرآنية، حيث رأينا العلماء يتجاوزون النسخ اللغوي إلى ما اصطلحوا عليه اعتباطاً بالنسخ الاصطلاحي بما يفيده من رفع للأحكام أو فقدان لها ثم العمل بها،أو غير ذلك مما يفيده النسخ من تنافِ بين الآيات!

وكانت النتيجة الحكم على القرآن بالإختلاف والتنافي دونما اعتبار لحقيقة وجودية،وهي أن كلام الله تعالى صادر عن مقام الواحدية الذي لا تغاير فيه ولا اختلاف،وقد بين المولى صفة كلامه أنه لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ما يعني استحالة التنافي بين آياته،وتناسبه مع حقيقة صفته.وهنا السؤال،هل رأى العلماء تنافياً بين الآيات؟أم أنهم لم يقدروا الله حق قدره،وقالوا بما لا يليق بحقيقة كلامه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..!؟

رابعاً:إن ما عرضنا له في بحوثنا لم ينف وقوع النسخ عقلاً ونقلاً،بل ما هي حدود القول بذلك وفقاً لما ذكره القرآن في معني النسخ وحقيقته،وذلك لاستحالة القول بأن القرآن يناقض ذاته فينفي الاختلاف ثم يعود للقول به!وما استدل به العلماء من آيات لا يفيد إطلاقاً وقوع النسخ بما هو تناف في الشريعة الإسلامية،لكونها ناسخة غير منسوخة، فضلاً عن قوله تعالى:"كتاب أحكمت آياته ثم فصّلت..".

وهنا تجدر الإشارة الى أن ما يساق من أدلة لإثبات وقوع النسخ،كما في قوله تعالى:"ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها."وقوله تعالى:"وإذا بدلنا آية مكان آية.."فإن هذه الآيات ليست ناظرة الى تحقق النسخ في آيات القرآن،لأنها جاءت في سياق الحديث عن أهل الكتاب،وأهل العلم يعون تماماً أن السياق أصل في التفسير،وهي تخبر أهل الكتاب أنه إذا كانت بعض الآيات (الأحكام) قد نسخت من شريعتكم،فقد جئنا لكم بخير منها أو مثلها.أما آية القبلة،فالأمر كان موجوداً قبل الإسلام ولم يكن آية حتى يقال بنسخها،ولهذا قال تعالى،"فلنَوليّنك قبلةً ترضاها.."فهذا تحويل وانتقال ولم يكن نسخاً بالمعنى المصطلح لدى العلماء!؟

خامساً:إذا كان النسخ لا يطال العقائد والأخلاق والأخبار المحضة والمحكمات،كما جاء عن أبي جعفر(ع): المنسوخات من المتشابهات."أي بعضها،فإن هذا لا يستفاد منه التنافي بين المحكم والمتشابه،اذ بالرد الى المحكم يصبح الكل محكماً.فالنسخ بالمعنى المذكور لا يكون تنافياً،بل تخصيص وتقييد ليس إلا؛وهذا ما اضطرب الموقف فيه أيضاً في فهم كتاب الله تعالى.

فالإسلام شريعة ناسخة لما سبقها من الشرائع؛فإذا قلنا بأنها ناسخة لنفسها بالتنافي فما يكون معنى كمالها وتمايزها عما سبقها من الشرائع؟إنه نسخ بين شريعة وأخرى،بحيث تبقى لشريعة الإسلام ما تدرجت به من أحكام،بلحاظ كونها خاتمة الشرائع بكل ما يعنيه ذلك من خصوصية في الجريان على مساحة الزمان والمكان والحياة.فتدبر.

وانطلاقاً من ذلك،فقد رأينا أن يعاد النظر  بهذا العلم،وما أفاده السيد الخوئي(قده) جدير بأن يكون منطلقاً لتأسيس علوم قرآنية تخرج القرآن عن كونه كتاباً تنسخه الأخبار والأحاديث، ليكون قرآناً محكماً ومتعالياً على أقاويل الرجال!كما هو شأنه في حقيقة نزوله،فتصحح في ضوء نوره كل تناقضات العلماء فيما رأوه من ناسخ ومنسوخ.

أما أن يقال: إن أخبار الآحاد والإجماعات والتواترات تنسخ القرآن، فهذا مما لا يليق بكتاب الله تعالى،لما بيناه من أن أحداً لا يمكنه أن يأتي بمثله أو خير منه.إنه كلام الله المحكم الذي يسبح في فلك توحده وتمايزه عن كلام المخلوقين.ومن هنا نرى أنه لا يمكن القبول بأي حديث أو رواية تنسب للمعصوم(ع) نسخاً مفاده التنافي بين آيات الله تعالى، فضلاً عن أن تفيد أن آية سابقة تنسخ آية لاحقة نزولاً!وكم كان الأمر مفيداً لو أن السيد الخوئي(رحمه الله) أقام المركز العلمي المؤهل للقيام بمهام البحث القرآني وفقاً لمنهجه في التفسير والتأويل.

بقلم أ.د.فرح موسى؛ رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان 

captcha