
وسأل سائل كيف ترون في قول قوم النبي موسى(ع): "أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا.." أنه قول مفيد للذم والسلبية؛ والله يقول عن هؤلاء أنهم ورثوا الأرض بما صبروا،كما في قوله تعالى: "وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون.". فهل ترون ثمة تناقض في هذا السياق القرآني أم أن التناقض ظاهر من قولكم وفهمكم في إعابة القوم بما قالوا؟
لقد تأخرنا عن إجابتكم لألم ألمَ بنا لا لحزن أصابنا ولا لكمد اعتورنا من سؤالكم، فنقول إن أول ما يحتاج إليه الباحث في علوم القرآن هو العلم بالخطاب القرآني وأنواعه، وإلا اضطربنا في قولنا اضطراب الإرشية في الطوى البعيدة.
إقرأ أيضاً:
وقد علمتم أنه من أنواع هذا الخطاب أن يأتي عام ويراد به الخاص أو خاص ويراد به العام، وقد يأتي بالإفراد ويراد منه الجمع أو الجمع ويراد به الواحد من الناس.
وهناك أكثر من عشرين حالة خطاب في
القرآن الکریم، للجنس أو للنوع، للذين آمنوا أو للذين كفروا، ولسنا بصدد بيان ذلك، وقد يكفي في سياق الكلام أن نشير إلى أن قول بني إسرائيل الضعيف والواهن،كان قولاً لبعضهم ولم يكن صادراً عن جمعهم بعدما عرفوا بثقل المهمة الملقاة عليهم في اتباع النبي موسى(ع) وطاعته لإخراجهم من الظلمات الى النور، فهم ورثوا الأرض بما ظهر من صبر على مشاق الدعوة والحياة من قبل الذين أخلصوا لله ورسوله، وهؤلاء دائماً يكونون قلة ينتصرون للدين ويقومون بأعبائه مهما كانت التضحيات،وغالباً كان ما يعاب على النبي، أي نبي، أنه نصير الفقراء! فقول بني إسرائيل وشكواهم من عذابات الحياة وتحمل المسؤوليات لا يستفاد منه أن كل بني إسرائيل كانوا كذلك، وخصوصاً بعد ظهور السحرة من بطانة فرعون وقولهم الحق والموت في نصرة النبوة.
فالذين ورثوا الأرض بما صبروا هم هؤلاء الذين كانت النبوة ولا تزال تنتصر بهم، وغير بعيد عما نقوله ما كانت عليه الأمة الإسلامية في بداية غزوة بدر الكبرى، وكلنا يعلم ما تعنيه أطروحة القرآن في مجال خطاب الإيمان،كما في قوله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا آمنوا...". فالعلم بحقيقة الخطاب ودلالاته يوفر علينا كثيراً من مشاق البحث،هذا أولاً.
أولاً: إن القرآن الكريم يحدثنا،كما في سورة الكهف،عن فتية آمنوا بربهم فزادهم هدىً، وحالات البشر في معنى الإيمان وحقيقته ليسوا على درجة واحدة، والذين قالوا للنبي موسى(ع): "أوذينا:" كانوا مؤمنين،وقد تراوحت حالاتهم بين مَن كان على وعي كامل بما تقتضيه الدعوة والنصرة من التزام وتضحية، وبين من كان إيمانه مجرد شعار للفوز بمكاسب الدنيا،كما قال الإمام الحسين(ع) في وصف عبيد الدنيا: "الدين لعق على ألسنتهم..".وهذا لم يمنع كثيراً من الناس،كما في حالة كل نبي،أن يكونوا في عداد الأمة.
فالنبي موسى(ع) لم ينتصر وتستمر دعوته بهؤلاء، وإنما انتصرت بالخلص من العباد، ودليلنا على هذا هو الأمر الإلهي لموسى:"فأسرِ بعبادي ليلاً إنكم متبعون. إن الله تعالى أضاف العباد إليه،كما قال تعالى:"إن عبادي ليس لك عليهم سلطان."وهذا مفاده أن الأمر مخصوص بالعباد الذين أمنوا حق الإيمان،وهذا لا ينطبق ابداً على من كان طالباً لمتاع الدنيا،ولا يضير أبداً أن يلحق بهؤلاء كل من كان على سبيل النجاة أو مستضعفاً،وغالباً ما تصدر عن هؤلاء نداءات استغاثة في غير محلها،أو يشكون النبي لمجرد أن يطلب منهم شيئاً يتعلق بشؤونهم الدينية والدنيوية،والأمة الإسرائيلية موصوفة بهذه الحالة لما ظهر منها من تشكِ وعناد وتباطؤ عن نصرة الحق،وقد لحقت بها الأمة الإسلامية حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة...
ثانياً: لقد ظهر لكم سيدي الجليل من القرآن أن الذين قالوا أوذينا هم أنفسهم أصحاب موسى(ع) الذين قالوا بعد أن تراءى الجمعان:"إنا لمدركون.."،فجاء رد موسى(ع) عليهم:"كلا إن معي ربي سيهدين:"فلم يظهر منهم أبداً أن اعتبروا بالمعجزات،أو بمشهد السحرة،لما كانوا عليه من تلبد في إيمانهم،وخوف على مصيرهم بما ألحقه فرعون بهم من ضرر نفسي وروحي ومعنوي!؟
ثالثاً: هلا لديكم متسع من الوقت لمراجعة الرؤية القرآنية المتعلقة بطالوت وجيشه لتدركوا معنى أن يتمايز الناس في إيمانهم بين أن يكونوا من الذين آمنوا ويشربوا من النهر إلى حد الثمالة،وبين أولئك الذين آمنوا وقالوا باعتقاد جازم وإيمان راسخ،كما قال الله تعالى: "قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله". وهنا تبدو حقيقة الدلالة،حيث نجد أن هؤلاء لم يعطفوا على الذين آمنوا مع طالوت.
لا شك في أن الكلام يطول في إجابتنا على أنه لا تناقض في ما ذهبنا إليه من قول في قوم موسى(ع)، ما يؤكد لنا حقيقة مفادها أن انتصار الرسالة الإلهية والقائمين بها إنما يرتكز أساساً على العباد المخلصين،وحيث يتوفر هؤلاء يكون النصر الإلهي. والحق يقال إن الأمة الإسلامية عايشت هذه الأحداث،وظهرت فيها نماذج كثيرة تتماهى مع بني إسرائيل ،قولاً وفعلاً،كما قال تعالى: "تشابهت قلوبهم". ولعل أهم ما يمكن ذكره أن صفوف النبي محمد(ص) لم تكن تخلو من الذين قالوا أوذينا؛ فهذا يوم بدر الكبرى يشهد لمقالة القوم حينما سئلوا عن حرب قريش، فقالوا:إن قريش ما ذلت منذ عزت، ولا هزمت منذ انتصرت، وقال أخرون:لو خضت البحر لخضناه معك.
وهذا ما يظهّر لنا حالات الإيمان وما كان عليه القوم من ذلك!؟ فالأرض يرثها الصالحون بما صبروا، والذين يقولون:"أوذينا. "لا يعول عليهم في نصرة النبوة، وهذا ما يشهده عالمنا المعاصر لجهة ما هو عليه من انتصار لأهل الإيمان،فنجد هؤلاء يتحدثون عن مقاومة العين للمخرز وينتصرون،في مقابل من كانت تستهويهم قوة العدو الصهيوني التي لا تقهر على حد زعمهم! وكانت نتيجة صدق الإيمان والعهد مع الله تحرير الأرض والإنسان بعدما كان كل شيء مسلوب لإرادة الطغيان في أوج حديث الأمة الإسلامية عن الصوم والصلاة والحج والزكاة!
إنه انتصار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وصبروا على مشاق الحياة، وجاهدوا في سبيل الله تعالى، فإذا قلنا عن هؤلاء أنهم ورثوا الأرض بما صبروا فلا يكون قولاً ملائماً جمعه مع من قال ويقول دائماً: أوذينا أو غير ذلك مما يقال تحت عناوين الإسلام والإيمان لكسب الدنيا والمتاع، وغداً يوم الزحف على القدس وفلسطين ستسمعون من أصحابنا منَ يقول: "إنا لمدركون.."،ولكن الله حكم على العباد بأن النصر هو حليف المؤمنين الذين صدقوا،كما قال تعالى: "وكان حقاً علينا نصر المؤمنين:" وليس المسلمين أو أصحاب الطريق الذين يأكلون من نعيم الدعوة ولا ينتصرون لها أو يخافون من شبح فرعون في لحظة عزة الإنتصار!.فالعجب كل العجب ممن يسمع كلام الله ولا ينتصر له،ثم يدّعي الصحبة والإيمان،والله غالب على أمره.
بقلم أ.د.فرح موسى؛ رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان