
لقد رأى المفسرون في هذه الآيات نبوءة قرآنية عما ستؤول إليه أحوال الدول من متغيرات وصراعات، سواء في زمن رسول الله(ص) أو في سائر الأزمنة، وذلك لما تؤسس له الآيات من سنن حاكمة، وقانون مضطرد في حياة الأمم والشعوب.
فقوله تعالى:"لله الأمر من قبل ومن بعد.." فيه من الدلالة ما يكفي على أن صراعات الأمم ليست محصورة في حقبة زمنية محددة، بل تتجاوز الزمان والمكان والأشخاص والدول لتمتد في الحاضر والمستقبل بحيث يكون للأمر الإلهي أثره وامتداداته في كل الأجيال والعصور.
وأنى لمن لم تكتمل لديه حقيقة التوحيد الأفعالي أو قصرت به رؤاهُ عن مديات الفعل الإلهي وإحاطته،أن يستوعب معنى حاكمية السنن أو أن يحيط علماً بسر الإذن الإلهي،تكويناً وتشريعاً،ليتبين له أن شيئًا في العالم لا يقع خارج إرادة الله واختياره،يقول العلامة اليزدي في معارف القرآن: "إن إدراك دقة الفرق بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية ليس متيسراً لكل أحد،إلا أنه ليس صعباً أن يعي الإنسان معنى توقف كل شيء في الوجود على إذن الله تعالى..".
إقرأ أيضاً:
فالله تعالى هو المالك لما ملكنا والقادر على ما عليه أقدرنا،:"وكل شيء عنده بمقدار.".وعليه، فإن قوله تعالى:"لله الأمر من قبل ومن بعد:" لاحظ لحقيقة الحاكمية الإلهية لكل الأحداث والتحولات الإنسانية. وإذا كانت النبوءة القرآنية قد تعلقت بالروم والفرس وما يكون لإحدى الدول من انتصار على الدولة الأخرى،فهذا لا يفيد إطلاقاً أن الفرح بنصر الله ناشيء عن متعلق الحدث في زمانه ومكانه ودوله،وإنما له حيثية التعلق بما يكون للمؤمنين من انتصار مع الرسول الأعظم(ص)، خصوصاً إذا ما علمنا أن انتصار الروم على الفرس قد تزامن مع انتصار المؤمنين في غزوة بدر التي شكلت فرقانًا حاسماً بين الشرك والإيمان،وكان من مؤديات هذا النصر أن يفرح المؤمنون.
إن قراءة متأنية للآيات وما نزلت بشأنه من أحداث في الداخل والخارج، والتعقيب على ذلك بحصر الأمر بيد الله تعالى يدلل بوضوح على واقعية الانتصار في بدر في لحظة الانتصار على المشركين في الخارج ما زاد من الثقة بأمر الله تعالى ونصره، ولهذا نجد الآيات تتحدث عن التأييد في النصر وهو لا يكون إلا للمؤمنين وكذلك الوعد الإلهي لا يكون إلا لهم.
أما ما تبقى من صراعات فهو ملحوظ كحدث كانت له انعكاساته الإيجابية دون أن يكون له معنى التأييد وإن كانت له تداعياته في خلق واقع جديد يخدم أهداف الرسالة الإسلامية، وهذا ما تريد الآيات تظهيره لجهة دلالتها على أن الأمر الإلهي جاء لتهيئة الأسباب لانتشار الإسلام واستيعاب كل الأطر الحضارية التي أدت الصراعات بها لأن تكون محط نظر وعناية الرسول(ص) لبعث الأمل وجعل الفرح بالانتصار أكثر من مجرد حالة نفسية، ليكون له أبعاده العملية في داخل الجزيرة وخارجها.
إن ما تفيده الآيات وتجعل منه عنوانًا بارزاً،هو أنها قدّمت للمؤمنين حقيقة ناصعة،مفادها أن الزمان والمكان والأحداث جاءت تحت أمر الله تعالى بلحاظ كون الأمر لم يختصر الحدث وحسب،بل تجاوزه إلى استيعاب الماضي والحاضر والمستقبل،للإفادة بأن الأمة المؤمنة هي التي تنظر إلى الأحداث بعين الغيب،وترسم ملامح تحولاتها وفقاً لرؤيتها العالمية،وإلا فما تكون فائدة البشرى والتأييد والفرح بالنصر إن لم تكن مؤديات ذلك مساعدة الأمم للخروج بها من الظلمات إلى النور؟وهذا ما نرى أن رسول الله قد أخذ به إلى منتهاه لتأطير العالم الجديد وفق رؤية الإسلام من خلال التعريف به والتعليم له.
لقد أفادت الآيات أيضاً أن ما جرى من أحداث جاء في سياق تتميم الوعد لرسول الله،كما قال تعالى:"وعد الله لا يخلف الله وعده..".وهذا الوعد لم يكن متعلقاً بالروم والفرس وحسب،بل له معنى السعة والشمول بمقتضى عالمية الإسلام،ويكفي التدبر في تتابع الآيات لنرى كيف أن الأحداث جاءت لتخدم هذا الوعد للمؤمنين لا ليكون لهم انتصار على المشركين في مكة،وإنما بهدف ظهور الدين على الشرك كله،ولهذا نجد الآيات بعد النبوءة تعود للكلام عن المشركين متهمةً إياهم بأنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا،وأنهم عن الآخرة غافلون،وقد تتابع الوعظ والارشاد في ضوء الانتصار في بدر بهدف تحقيق الغاية والإعلام بأن الأحداث ليست مؤطرة في زمانها ومكانها،بل لها أبعادها في الواقع الإنساني كله،وهذا ما يرشد إليه السياق القرآني لجهة ما جاء به من دعوة للسير في الأرض والاعتبار بمن مضى من الأمم والحضارات التي عملت بها السنن وجرت عليها الأحداث لتبقى أثراً بعد عين،فجاءت الآيات لتمنح المشركين فرصة التدبر بالمآلات،بحيث يعلم هؤلاء أن السنن التاريخية والكونية حاكمة،وأن القانون الإلهي مضطرد في صميم الكون وحركة الحياة،فليس زمن الرسول بدعاً من الأزمنة،؛فالكل خاضع لأمر الله تعالى من قبل ومن بعد،ولعل هذا هو من أهم الحقائق التي تقدمها السورة المباركة،فهي تؤكد على حاكمية أمره،وأن وعده غير مخلوف،وأن المؤمنين سيفرحون دائماً بانتصاراتهم وليس بانتصارات دول الطغيان من حولهم!
وإذا كان انتصار الروم على الفرس كما أنبأت الآيات قد أحدث أثراً إيجابياً على المؤمنين ونال من عزيمة المشركين،فإن ملاحظة سياق الآيات يأخذ بنا إلى وعد الله تعالى بالانتصار على الشرك حيثما كان،وقد جاء الانتصار في بدر ليكون شعاعاً لكل الحضارات في أوج صراعاتها على السلطة والنفوذ!كما يمكن لنا استيعاب الرؤية القرآنية من خلال التدبر بما وعظت به الآيات فيما أكدت عليه من توازي بين انتظام واقع الأمم بالسنن وقيام السموات والأرض بالحق،فهي تدعو إلى التفكر بالأنفس والآفاق لإدراك حقيقة الانتظام في حقيقة الخلق والوجود،على اعتبار أن كل شيء في هذا العالم قائم بالحق والعدل.
ولهذا نرى أن النبوءة جاءت لترسم ملامح تحولات جديدة تخدم الإسلام في عالم جديد من خلال إنسان جديد يقوم بهذا الدين ويؤدي دوره في طريق العالمية مما يجعل لأمر الله أثره وحاكميته ليس في زمن الرسول وحسب،بل في مطلق الزمن،وذلك من منطلق أن الوعد الإلهي لا يكون له بعده العالمي إلا من خلال بعث جديد سبق لرسول الله(ص) أن أسس له ولما تنته مفاعيله بعد.وبما أن الأمر لله تعالى،وأن كل شيء في العالم، نفساً ووجوداً، قائم بالحق والعدل والأجل المسمى،فلم يبق إلا أن نسلم بأن وعد الله محقق لا محالة،لكونه وعداً غير مخصوص بزمان أو مكان،وإنما له بعد الرسالة في العالمية، ولا بد أن يفرح المؤمنون بنصر الله وبعثه بمقتضى أمره،تحقيقاً لوعده،وترشيداً لخلقه،وتظهيراً لأمره،:"ولكن أكثر الناس لا يعلمون".
بقلم أ.د.فرح موسى: رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان