
الأقدار جمع قَدَر، والقَدَر من منظور إسلامي أصيل يمكن تلخيصه بالتالي: أن الله تعالى يقدّر الأشياء بعلمه، ومنها ما يجري على الإنسان، لكنه تعالى يعطيه مساحة اختيار حقيقية وواسعة، فالإنسان مسؤول عن أفعاله، ولا جبرَ في أفعاله، ولا استقلال له عن الله. وأن بعض القدر ثابت وبعضه قابل للتغيير بحسب عمل الإنسان. وأن إرادة الإنسان، وتوبته، وإنابته، ودعاءه، وصدقته، وبرّه، وصلاح نفسه جميع ذلك يؤثِّر في تغيير القدر المعلّق. وأن العدل الإلهي أساس فهم القَدَر، فلا ظلم ولا عبث في التقدير.
هذه المقدمة الضرورية تبيّن أن إرادة الإنسان ركن من أركان التقدير الإلهي له، فيما يملك فيه اختيارًا بالطبع، تفتح لنا نافذة على فهم الحتمية التي ذكرها الإمام أمير المؤمنين (ع): "مَنْ غالَبَ الْأَقْدارَ غَلَبَتْهُ" والتي تختزل معادلة دقيقة بين إرادة الإنسان، وحتمية قوانين الوجود.
إن فهم هذه الحتمية فهما حقيقيًا يتطلب أن نميِّز بين نوعين من الأمور:
النوع الأول: هو الأمور التي يملك الإنسان فيها اختياره وقراره وما بيده أن يسعى إليه معتمدًا على إرادته وما يمكنه إعداده بنفسه من قدرات، ومتوكلا على الله تعالى، فهنا يكون الإنسان هو الذي يرسم مساره باختياره، وهو الذي يساهم في صناعة قَدَرِه، فهو إن شاء أن يتعلم تعلَّم، شرط أن يجتهد في طلب العلم، وينقطع إليه، ويعطيه الاهتمام الكافي، ويذاكره، وإن شاء أن يبقى أميًّا فله أن يختار ذلك ويتحمَّل تبعات اختياره، وإن شاء أن يهذِّب أخلاقه، ويزكّي نفسه ففي إمكانه بالتأكيد أن يختار ذلك ويفعله، وإن شاء أن لا يفعل فلن يُجبره أحد على ذلك، فالشخص في هذا النوع من الأمور هو المسؤول عن اختياره وقراره، وبالتالي فهو يُساهم في صياغة قَدَرِه بلا جدال.
النوع الثاني: هو الأمور الخارجة عن قدرة الإنسان، والقضايا التي لا اختيار له فيها، ولا قدرة له على تغييرها، وهي تلك القوانين الكونية، والحوادث الطبيعية، أو الأحداث التي يتسبب بها سواه من الناس فيقع ضحية لها، هذا النوع من الأمور (الأقدار) على الإنسان أن يعترف بحدود قدرته أمامها، فلا يعمل على مغالبتها لأنها ستمر عليه شاء أم أبى، كحتمية الموت، الذي هو قدر كل كائن غير الله تعالى، فكل ما خلقه الله مصيره إلى الموت، وكل ما له بداية فمصيره إلى النهاية، فليس للإنسان أن يُغالب هذه الحتمية الكبرى، ليس له أن يرفض الموت لأن الموت يغلبه، ولو فعل ما فعل.
إن مغالبة الأقدار تعني أن يعاند الإنسان الحقائق والمعدلات والقوانين الكونية التي لا حيلة له فيها (مثل الموت، والشيخوخة، الماضي، قوانين الطبيعة، أو المصائب التي تقع رغم أخذه بكل الأسباب). فإنها تغلبه بلا شك، لأنها أقوى منه بكثير، وهو أمامها لا يملك حولاً وقوَّةً.
هنا على الإنسان بدل أن يُغالِب الأقدار أن يتكيَّف معها، بدل أن يجزع لما حدث فتعظم وطأة الأقدار عليه، يسأل نفسه "ماذا عساي أفعل الآن؟" أي يغادر منطقة الضعف أمام القدر إلى منطقة كيف يتكيَّف مع القدر.
وأولى الخطوات في هذا المجال: أن يتقبَّل ما حدث، لا أن يرفضه، لأن الرفض لا يمنع حدوثه بعد أن حدث، بل يزيد من وطأته عليه، ومن أجمل ما رُوِيَ في هذا المقام ما قاله الإمام الصادق (ع): "ما كانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ يَقُولُ لِشَيْءٍ كانَ لَوْ كانَ غَيْرُهُ"
والخطوة الثانية: أن يكون مرِنا في التعامل مع الأقدار، أن ينحني للعاصفة ليعود ويستقيم بعدها. وأن يلجأ إلى الله تعالى بالدعاء والذكر فإن ذلك يمنحه طاقة جبَّارة على الصمود أمام المحنة ويساعده على تجاوزها بأقل الأضرار النفسية.
"مَنْ غالَبَ الْأَقْدارَ غَلَبَتْهُ" دعوة للتعامل بوعي مع الأقدار، والتكيُّف معها، وفهم تكليفنا تجاهها، وموقعنا منها.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي