
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ عَرَفَ اللّهَ تَوَحَّدَ، ومَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ تَجَرَّدَ".
جوهرة كريمة تختصر طريق التكامل المعنوي والعرفاني في كلمتين مفتاحيتين: التوحُّد والتَّجرُّد. وتشق لنا مسارين متلازمين: مسار معرفة الله تعالى، وينتج عنه التوحُّد، ومسار معرفة النفس، وينتج عنه التجرُّد، وبهذا تقدم لنا معادلة مهمة تربط بين المعرفة والآثار العظيمة المترتبة عليها.
فمن عرف الله تعالى معرفة حقيقية، ووقف على جماله وجلاله، وأيقن بقيوميته وهيمنته على كامل الوجود، توحَّد، ولا يراد من التوحُّد هنا الإيمان بوحدانية الله تعالى لأن ذلك أمر مفروغ منه، وإنما يراد بالتوحُّد حالة قلبية راقية، وهي الاستيحاش مِمّا سوى الله تعالى، فالعارف بالله تعالى حين يشاهد جمال الله وكماله، يرى ما سواه من الخلق ناقصين ومصيرهم إلى الفناء، فيتوجَّه بكلِّه إليه، ويتعلَّق قلبه بجلاله وجماله وعظمته.
وهذه المرتبة هي ما يُعَبَّر عنها بالتوحيد الأفعالي، ويعني أَلّا يرى العارف مؤثِّرًا في الوجود سوى الله، فلا يتعلق قلبه بسواه، ولا يُؤَمِّل غيره، ولا يرجو نفعًا من زيد، ولا يخاف ضرًا من عمرو، فيصبح وحيدًا في تعلقه، لا يرى في الكون إلا الله تعالى.
ويرى بعض العلماء أن معنى توحَّد، أي صارت له وجهة واحدة، فالإنسان قبل معرفته بالله تشتته رغباته، وهي كثيرة جدًا، ولا يمكنه أن ينالها جميعًا، إنه ليريد المال، والجاه، والسلطان، ورضا الناس، والعافية، والسعادة، بل يريد كل شيء، ولا يمكنه أن يحصل على كل شيء، فيتشتت، أما الذي يعرف الله حق المعرفة، ويدرك أنه تعالى هو الرزّاق والمنعم، وهو واهب الحياة وما فيها فتتوحَّد وجهته، فلا يطلب إلا الله تعالى، وفي هذا يقول الإمام زين العابدين (ع): "فَقَدِ انْقَطَعَتْ إِلَيْكَ هِمَّتِي، وَانْصَرَفَتْ نَحْوَكَ رَغْبَتِي، فَأَنْتَ لا غَيْرُكَ مُرَادِي، وَلَكَ لا لِسِوَاكَ سَهَرِي وَسُهَادِي، وَلِقَاؤُكَ قُرَّةُ عَيْنِي، وَوَصْلُكَ مُنَى نَفْسِي، وَإِلَيْكَ شَوْقِي، وَفِي مَحَبَّتِكَ وَلَهِي، وَإِلَى هَوَاكَ صَبَابَتِي، وَرِضَاكَ بُغْيَتِي، وَرُؤْيَتُكَ حَاجَتِي، وَجِوَارُكَ طَلَبِي، وَقُرْبُكَ غَايَةُ سُؤْلِي، وَفِي مُنَاجَاتِكَ رَوْحِي وَرَاحَتِي".
وهناك من العلماء من يرى أن معنى (توحَّد) أي صار واحد زمانه، فالعارف بالله تعالى يترفَّع عما يُشغِل بال الناس، فللناس همومهم وله همومه، وهو يطلب غير الذي يطلبون، وبهذا تصبح شخصيته متفرِّدة متميِّزة، ووحيدة في صفاتها، وفي سلوكياتها، وفي سموِّها ومكانتها.
هذه هي المعاني المحتملة للشق الأول من الجوهرة وهو قوله (ع): "مَنْ عَرَفَ اللّهَ تَوَحَّدَ" أما الشِقُّ الثاني منها، وهو قوله (ع): "وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ تَجَرَّدَ" ففي معناه احتمالات ثلاثة:
المعنى الأول: ما يراه الفلاسفة من أن معرفة النفس هي النافذة الأهم لإدراك حقيقة الوجود، ومعرفة الله تعالى، وإدراك البعد المعنوي الروحي من الإنسان، وأن الروح والنفس هما حقيقته، والبدن آلة للنفس وحسب، فمن عرف ذلك ترفَّع عن الانغماس في اللذات الحسِّية البهيمية، فيكون التجرد هنا بمعنى تسامي الذات عن عالم المادة.
المعنى الثاني: تمزيق الحجب التي تحجب النفس عن رؤية عالم الجمال والجلال، فالنفس البشرية محجوبة بِحُجُبٍ كثيفة من الأوهام مثل: حب الجاه، التعلق بالمال، الغرور بالعلم، الأنا، العصبية، فإذا عرف الإنسان نفسه تجرَّد من صفاته الذميمة وكل الحُجُب التي تحجبه عن الله تعالى.
المعنى الثالث: أن من عرف أن نفسه مهما أوتيت من قوة وقدرة، فإنها فقيرة لا تملك لذاتها نفعًا ولا ضرّاً، فمن أدرك فقره الذاتي تجرَّد من ادعاء الملكية والقدرة. فالإنسان كلما أوغل في معرفة نفسه، وجدها مرتبطة بالله ارتباط الفقير بالغني، والمحتاج بالمستغني. عندها، يتجرد من كل شيء ليقف بين يدي الله "صفراً" لا يملك شيئاً، وهذا هو تمام العبودية.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي