"اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا أبا عَبْدِاللهِ وَعَلَى الأَرْواحِ الَّتي حَلَّتْ بِفِنائِكَ، عَلَيْكَ مِنّي سَلامُ الله أَبَداً ما بَقيتُ وَبَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ، وَلا جَعَلَهُ اللهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنّي لِزِيارَتِكُمْ، اَلسَّلامُ عَلَى الْحُسَيْنِ، وَعَلى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَلى أَوْلادِ الْحُسَيْنِ، وَعَلى أَصْحابِ الْحُسَيْنِ".
روى الطبري في تاريخه عن عبد اللَّه بن سليم والمذري قالا: أقبَلنا حَتَّى انتَهَينا إلَى الصِّفاحِ، فَلَقِيَنا الفَرَزدَقُ بنُ غالِبٍ الشّاعِرُ، فَواقَفَ حُسَيناً (ع) فَقالَ لَهُ: أعطاكَ اللَّهُ سُؤلَكَ، وأمَّلَكَ فيما تُحِبُّ. فَقالَ لَهُ الحُسَينُ (ع): بَيِّن لَنا نَبَأَ النّاسِ خَلفَكَ، فَقالَ لَهُ الفَرَزدَقُ: مِنَ الخَبيرِ سَأَلتَ، قُلوبُ النّاسِ مَعَكَ، وسُيوفُهُم مَعَ بَني أُمَيَّةَ...
لا تَعجَب قارئي الكريم وأنت تقرأ هذا النَّصَّ الذي يُوَصِّف فيه الفرزدق حال أهل الكوفة، أن تكون قلوب الناس مع شخص، وسيوفهم مسلولة عليه في الآن ذاته، فهذا موقف يتكرر في كل العصور، وليس حِكراً على أهل الكوفة، فقبلهم كانت أقوام الأنبياء والمُصلحين تعيش هذا النحو من المواقف المتعارضة والمتضادَّة، وبعد أهل الكوفة حتى زماننا هذا يوجد الكثير من هؤلاء، فالناس بفطرتهم يحبون الصلاح والمصلحين، يحبون الخير والأخيار، ولكنهم لا يقوون على دفع كلفة الكَوْنِ معهم ونُصرتهم والذَّبِّ عنهم، فكلفة التغيير والإصلاح ومواجهة المُفسدين والظالمين كبيرة، يريدون أن يغيَّرَ الآخرون عنهم، وأن يواجهوا الطغاة وحدهم، وأن يضربوا على أيدي المفسدين وحدهم، دون أن يُشاركوهم في كلفة النهوض والتغيير، لكنهم يشاركوهم الانتصار والغنيمة.
لا يكفي أن تكون عاطفياً مع الشخص التغييري، تكتفي بمحبته دون أن تعينه وتسانده وتنخرط معه في مشروعه لتحقيق الأهداف التي ترغب أنت بتحقُّقها، الحُبُّ وحده لا يُغَيِّر الواقع ولا يبدل الأحوال، الحُبُّ إن لم يتحول إلى عمل فلا قيمة ولا تأثير له، والحُبُّ إن لم ينخرط صاحبه في مشروع المَحبوب لا قيمة له، والحُبُّ إن لم يَدْعُك إلى نصرته يبقى عاطفة وحسب.
الواقع لا تصنعه العواطف، بل يصنعه الفعل، والتغيير يصنعه المُضَحّون المستعدون للذهاب بعيداً في الفعل، بعيداً في دفع الأثمان الواجبة، ولا تغيير من دون أثمان، ولا تحَوُّلات من دون تضحيات.
لقد نقل لنا المؤرخون صوراً متناقضةً، رَوَوا لنا عن أشخاص يُحبون الحسين ولكنهم يخافون أن يلتقوا به، يحبون الحسين ولكنهم لا يقوون على كلفة نُصرته، فهذا عمرو بن قيس المَشرقيّ يقول: دَخَلتُ عَلَى الحُسَينِ (ع) أنا وابنُ عَمٍّ لي. وهُوَ في قَصرِ بَني مُقاتِلٍ ـ فَسَلَّمنا عَلَيهِ، فَقالَ لَهُ ابنُ عَمّي: يا أبا عَبدِ اللّهِ، هذَا الَّذي أرى خِضابٌ أو شَعرُكَ؟ فَقالَ الحسين (ع): خِضابٌ، وَالشَّيبُ إلَينا بَني هاشِمٍ يَعجَل.
ثُمَّ أقبَلَ عَلَينا فَقالَ: جِئتُما لِنُصرَتي؟ فَقُلتُ: إنّي رَجُلٌ كَبيرُ السِّنِّ كَثيرُ الدَّينِ كَثيرُ العِيالِ، وفي يَدي بَضائِعُ لِلنّاسِ ولا أدري ما يَكونُ، وأكرَهُ أن اُضَيِّعَ أمانَتي، وقالَ لَهُ ابنُ عَمّي مِثلَ ذلِكَ. فقالَ (ع) لَنا: "فَانطَلِقا فَلا تَسمَعا لي واعِيَةً، ولا تَرَيا لي سَواداً، فَإِنَّهُ مَن سَمِعَ واعِيَتَنا أو رَأى سَوادَنا فَلَم يُجِبنا ولَم يُغثِنا، كانَ حَقّا عَلَى اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ أن يَكُبَّهُ عَلى مَنخِرَيهِ في النّارِ".
ورَوَوا لنا مواقف أخرى على النقيض من الموقف المتقدِّم أذكر منها موقف مُسلم بن عوسجة، ذلك الشيخ الطاعِنُ في السِّنِّ، الذي تقدَّم من الحسين (ص) يوم أذِنَ لهم في الذهاب عنهم وتركه وحيداً يواجه القوم لأنهم لا يريدون غيره، فكان أن قال مُسلم له: أنَحنُ نُخَلّي عَنكَ ولَمّا نُعذِر إلَى اللَّهِ في أداءِ حَقِّكَ؟! أما وَاللَّهِ، حَتّى أَكْسِرَ في صُدورِهِم رُمحي، وأضرِبَهُم بِسَيفي ما ثَبَتَ قائِمُهُ في يَدي، ولا أُفارِقُكَ، ولَو لَم يَكُن مَعي سِلاحٌ أُقاتِلُهُم بِهِ لَقَذَفتُهُم بِالحِجارَةِ دونَكَ حَتّى أموتَ مَعَكَ.
في كلا المشهدين حُبٌ بلا شك، عمر بن قيس المشرقي، ومُسلم بن عوسجة كلاهما يُحِبُّ الحسين (ع)، لكن الأول لم يتحوَّل حبُّه إلى موقف، بقي حُبُّه حبيس فؤاده، لو خرج حُبُّه من فؤاده لكان فيه كُلفة لا يقوى عليها، أمّا مُسلم رضوان الله عليه فقد ذهب بعيداً في الحب للحسين (ع)، لم يكتفِ به عاطفة مُجرَّدة، بل حوَّله إلى موقف، إلى فعل، لقد تخلَّف الأول (عمر) عن ركب صُنَّاع الحدث، وانضوى (مُسلم) في ركب الخالدين.
لا أحد من المسلمين ماضياً وحاضراً إلا ويحب الحسين (ع)، لكن بعض الذين يحبونه قد يساوون بينه وبين ظالمه وقاتله، وبعضهم يحب الحسين (ع) قطعا، ولكنه يُبَرِّرُ لزيد قتل الحسين، وقد يلوم الحسين على رفضه البيعة ليزيد، ويرى خروجه على يزيد الطاغية إلقاءً للنفس في التَّهلُكة، وبعضهم يُحِبُّ الحسين ويُطيع غير الحسين، فهؤلاء محبون ولكنهم في الجبهة الأخرى.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي