رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "اتَّقُوا اللهَ في الخَلَواتِ فَإِنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الحاكِمُ".
وكل الموجودات يمكنك أن تغيب عنها إلا الله تعالى فإنك لا تغيب عنه، إذ لا شيء يغيب عن الله، فهو عالمٌ بما غاب عنا نحن البشر وعالِمٌ بما نشهده، عالم بكل شيء لأنه خالق كل شيء، وكل شيء قائم به محتاج إليه.
وهذه حقيقة لا يُنكرها عاقل، ولئن كان للبعض أن يستبعد ذلك، أو يَعسُرَ عليه فهمه، فإن ما اخترعه البشر في الآونة الأخيرة برهان عملي على ذلك.
واليوم يمكننا القول: لا تخفى مِنّا خافية، كل من يحمل هاتفاً فحركته معلومة، وتنقلاته معلومة، والأماكن التي يرتادها معلومة، ورسائله معلومة، وأصدقاؤه معروفين، حتى تلك الأمور الذي لا يستعمل هاتفه فيها معلومة، الهاتف يسجل كل شيء يكون منه، أصواته، مشاهده، فإذا كان ما اخترعه البشر قادر على معرفة وإحصاء كل ما تقدم، فما بالك بعلم الله الذي لا يعزُب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض؟!
إن ذلك يوقفنا أمام حقيقتين عظيمتين لا يجوز أن نغفل عنها بحال من الأحوال: الحقيقة الأولى: أننا في عين الله وفي مَحضره المقدس، يعلم ما يكون مِنّا، بل يعلم ما يجول في خواطرنا، باطننا في عِلمهِ كظاهرنا، وهذا يُلزمنا بأن نخشاه في الخلوة، ونُعَظِّم مقامه وإن كُنا في أماكن لا يرانا فيها أحد، لأننا لا نغيب عن عين الله أبداً، قال تعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"﴿4/ الحديد﴾.
والحقيقة الثانية: أن الذي يحاسبنا ويُثيبنا ويعاقبنا في الدنيا والآخرة هو الله وليس سواه، فهو الشاهد وهو الحاكم، والشهود الذين يشهدون علينا والذين جاء ذكرهم في القرآن لا يحتاجهم الله لإثبات واقعة لا يعلمها (حاشاه) إنما هم لمزيد من الاحتجاج علينا ومنعنا من الإنكار.
ما يؤسَف له أن مُعظمنا -إلا من رحم الله- تغيب عنا هاتان الحقيقتان، فلا نخاف الله في خلواتنا، فترانا نرتكب الفظائع، ونأتي المعاصي، ظَنَّا منا أن لا أحد يرانا ويسمعنا، وسبب ذلك يرجع إلى التالي: إما عدم اليقين بأننا في عين الله ومحضره، فلو كُنا موقنين من ذلك لخشيناه وعظَمنا مقامه، أو غفلتنا عن الله بسبب ما ران على قلوبنا من آثار الذنوب والمعاصي، أو مراهنتنا على رحمة الله ومغفرته، أو أننا نأمَن على أنفسنا من تعجيل عقوبة الله لنا، ونعتقد أن في الإمكان أن نتوب فيما بعد ونُصَحِّح العلاقة معه، وقد تجتمع هذه الأسباب، وهنا يكون العمى المُطبق، فإن من لا يرى الله، ولا يوقن أنه في محضر الله هو أعمى القلب والبصيرة، وما أجمل عبارة الإمام الحُسين (ع) في دعائه في يوم عَرَفة: "عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقيباً"وما يؤسَف له أيضاً أن معظمنا –إلا من رحم الله- يخشى الناس أكثر مما يخشى الله، ويهابهم أكثر مما يهاب الله، بل يُعَظِّمهم أكثر مما يُعَظِّم مقامه تعالى، وبعض قد لا يخشى الله ولا يهابه ولا يُعَظِّم مقامه، قال تعالى: "...يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً..."﴿77/ النساء﴾ والله أحق بالخشية والمخافة والمهابة والتعظيم، لأنه العالم بكل شيء، ومالك كل شيء، وبيده أسباب كل شيء، والمقدر لكل شيء، وإليه يرجع كل شيء.
إن الذي يفقه هذه الحقيقة لا يخشى إلا الله، ولا يكون في قلبه مكان للخوف والخشية من سواه تعالى.إن خشيتنا من الله في السر يجب ألا تقل عن خشيتنا منه في العلانية، وإن خشيتنا من الناس يجب ألا تزيد عن خشيتنا منه تعالى فهو أحق بأن نخشاه لأنه مطلع علينا لا نغيب عنه أبداً.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي