رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "سَمْعُ الأُذُنِ لا يَنْفعُ مَعَ غَفْلَة الْقَلْبِ".
لا أريد في هذه المقالة أن أدخل في نقاش حول هل أن الدماغ هو مركز الإدراك والتفكير، أم العقل، أم القلب، كما لا أريد أن أدخل في التفريق بين العقل والقلب والفؤاد، فليس محل هذا النقاش هنا، لكن من المُسَلَّم به أن بين هذه الأربعة فروقاً بعضها عضوي وبعضها الآخر ناتج عن الزاوية التي ننظر منها إلى القلب والعقل والفؤاد.
ومن المُسَلَّم أيضا أن الدماغ ليس هو العقل، سواء كان العقل فيه أم في غيره، ومِن المُسٍلِّم علمياً أن القلب يقوم بأدوار تتجاوز ضَخَّ الدَّم إلى أرجاء البدن، إلى الإحساس والشعور والاستجابة العاطفية، وهو يتلقى من الدماغ ويرسل إليه أوامره كذلك، فإن أحبَّ قارئي الكريم أن يتوسَّع في هذا الشأن فأبواب العلم مفتوحة له على مجال واسع من البحوث والنقاشات العلمية.
وعلى كل حال فلو رجعنا إلى النصوص الدينية قرآنية كانت أم روائية لوجدناها تعطي للقلب دوراً أساسياً يتجاوز دوره المادي، إذ تعتبره مركز التفاعل مع المُدرَكات، ومركز الفَهم والتعَقُّل والوَعي، ومركز المشاعر والعواطف، ومركز السُّلطة والمسؤول عن إصدار الأوامر، ولذلك يتحمَّل المسؤولية عنها، ويحاسَب عليها.
وعلى ضَوء ما تقدم يتضح لنا أن السَّمع كغيره من الحَواسّ الأخرى ليس سوى آلة تنقل الأصوات إلى الدماغ الذي يحللها ثم يرسل بها إلى القلب الذي يتفاعل معها سلباً أو إيجاباً، وهكذا الأمر في بقية الحَواسّ، إنها مُستَقبِلات ناقلات وحسب، وليست هي التي تفكِّر وتعقل وتستجيب وترفض، فذلك دور القلب حصراً.
ونعرف بالتجربة، والتجربة برهان، أن القلب له أحوال عديدة مع ما يسمع ويرى، فتارة ينشرح لما يسمع ويرى، ويمتلئ بالغبطة والسرور، وتارة أخرى يضيق ويستولي عليه شعور بالنفور، وثالثة يغلق كل منافذه يريد ألا يسمع شيئاً، رغم أن الأذنين تسمعان وتنقلان إليه ما تسمعانه، ولكنه لا يستجيب لما يسمع ولا يتفاعل معه، وقد يعَبِّرْ معظمنا في مثل هذه الحال من الرفض للتفاعل مع ما نسمع بالقول: لا أريد أن أسمع، نعني لا نريد أن نستجيب لما يقال لنا ويُعرَض علينا. وقد يكون القلب مشغولاً في التفكير في أمر من الأمور فلا يتفاعل مع ما يسمع ولا يستجيب له.
في جوهرته الكريمة "سَمْعُ الأُذُنِ لا يَنْفعُ مَعَ غَفْلَة الْقَلْبِ" يشير الإمام (ع) لما سبق ذكره، فيقول: إن القلب هو الذي يتفاعل مع ما يسمع ويرى، وهو الذي يستجيب، ويفكر، وقبل، ويرفض، ويؤمن، ويكفر، ويعتبر، ويتعظ، هذا فيما لو كان مُقبلاً على ما يسمع ويرى، فإن كان غافلاً أو لاهياً أو مُعرِضاً فلن ينفع مع كل الكلام.
وبذلك نفهم الفرق بين السّماع والاستماع، فالسماع يعني ورود الأصوات على القلب لكنه لا يتفاعل معها، أم الاستماع فلا يكون إلا بإقبال واهتمام من القلب بما يسمع ولذلك يتأثَّر القلب ويستجيب، ولذلك أمر الله تعالى بالاستماع والإنصات، عند قراءة القرآن الكريم فقال: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿الأعراف/ 204﴾.
ولهذا أيضاً لا يرى الفقهاء حُرمة في السماع للباطل، فقد تسير في الشارع فتسمع أحداً يقول باطلا أو فُحشاً أو لغواً أو سوى ذلك من الكلام المُحرَّم فسماعك ليس حراماً، لأنه أمر قهري لا إرادي ، بخلاف حُرمة الاستماع، لأنه أمر إرادي اختياري، وفيه إقبال من القلب عليه.
وقد ذكر الله تعالى في كتابه أصنافاً من الناس الذين لا يستجيبون لما يسمعون، فوصفهم بالمَوتى، فكما أن الموتى لا يستجيبون لما يُقال لهم، ولا يتفاعلون، كذلك الذين يُعرضون عن الله والحق والهدى لا يستجيبون رغم سَماعهم لما يقال لهم، قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴿الأعراف/ 179﴾.
فكما أن الأنعام لا تفهم عليك إن حدثتها فإن هؤلاء لا يستجيبون لك إن دعوتهم رغم أنهم يستمعون إليك، بل هم أضل من الأنعام لأن الأنعام تنزجر إذا زجرتها، أما هم فلا. وفي آية أخرى ينقل الله لنا قول المشركين: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴿فُصِّلَت/ 5﴾ إنهم يقولون هذا إمعانا في العِناد وتيئيساً لرسول الله (ص) ليكفَّ عن دعوتهم لما كانوا يجدونه في قلوبهم من وقع كلماته، يريدون ألا يؤمنوا ولو أتاهم بالبراهين والمعجزات، ويقولون: قلوبنا في أَكِنَّة (أغطية مُحكَمة) فلا تصل إليها كلماتك، وفي آذاننا وَقْرٌ (صَمَمٌ) ومن بيننا وبينك حِجاب سَميك فلا اتصال بيننا وبينك. لا نسمع لك، ولا نستجيب لقولك.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: