ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "سَهَرُ اللَّيْلِ في طاعَةِ اللّهِ رَبيعُ الْأَوْلِياء وَرَوْضَةُ السُّعَداءِ".
ويحتَلُ السَّهر في الليل بقصد التَّعَبُّد والتَّهجُّد مكانة عظيمة عند المتعبدين لله تعالى، فهو الوقت الأحب إليهم، يختَلون به مع سيدهم ومولاهم، يناجونه ويدعونه ويُفْضون إليه بما يختلج في صدورهم ويعتمل في قلوبهم من لواعج الشوق وشَجَن الحنين، بعيداً عن صَخَب النهار وزحمته، ومتطلباته وصوارفه.
وسَهَر الليل بالنسبة إليهم فسحة لتجديد الطاقة ومَحطَّة لشَحْذ الهِمَّة، وفترة للوصال والأنس بالمحبوب وهو مالك السماوات والأرض، تزهر فيه قلوبهم، وتزهو فيه أرواحهم، إنه كما قال أمير المؤمنين (ع): "...رَبيعُ الْأَوْلِياء وَرَوْضَةُ السُّعَداءِ" وهو حياة غير الحياة المادية، هو حياة روحية ومعنوية أخرى لا يُدركها إلا الذي يعيشها، وقد كشف الإمام (ع) عن بركات سَهَر الليل للعبادة والتهجَّد فقد قال: "السَّهَرُ رَوضَةُ المُشتاقِينَ"، "سَهَرُ الليلِ شِعارُ المُتَّقِينَ وشِيمَةُ المُشتاقِينَ"، "سَهَرُ العُيونِ بِذِكرِ اللَّهِ خُلْصانُ العارِفِينَ وحُلوانُ المُقرَّبِينَ"، "سَهَرُ العُيونِ بِذِكرِ اللَّهِ فُرصَةُ السُّعَداءِ ونُزهَةُ الأولِياءِ"، "سَهَرُ الليلِ بذِكرِ اللَّهِ غَنيمَةُ الأولياءِ وسَجِيَّةُ الأتقِياءِ".
ولقد كان من أوائل ما نَزل على قلب النبي الأعظم محمد (ص) سورة المُزّمِّل، وكان من أهمِّ ما أمره الله فيها أن يقوم الليل للعبادة والتهجدُّ والتسبيح والتهليل والذكر والدعاء، فإنه سَيُلقَى على كاهله حِملٌ ثقيلٌ وهو حمل الدعوة إلى الله وتبليغ رسالته، وستواجهه مصاعب كثيرة، وستعترض طريقه عقبات، وسيواجه صُنوفاً من الترغيب والترهيب بهدف ثنيه عن متابعة مسيرته، وستُشن عليه حملات إعلامية مشحونة بالاتهامات الباطلة لتنفير الناس عنه، فيحتاج إلى عبادة تشحَن طاقته الروحية، وذلك لا يكون إلا بالقيام إلى صلاة الليل وما يصاحبها من عبادات وأذكار.
وقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ﴿1﴾ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿2﴾ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ﴿3﴾ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴿4﴾ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴿5﴾ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴿6﴾ إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ﴿المُزَمِّل/7﴾ ففي هذه الآيات الكريمات يدعوه الله إلى أن يقوم للجُهد والجهاد في سبيلها دعوته وهي دعوة الحق، كأنه يقول له: قُمْ فقد مضى وقت النوم والراحة ، قُمْ وتهيّأ لهذه المَهمَّة الكبرى واستعد لها، والاستعداد لها يتطلَّب اتصالاً دائماً بالقدرة المطلقة التي لا يُعجزها شيء، والتي تعلم كل شيء، وتُسَدِّدكَ وتتعَهّدك وترعاك في جميع أحوالك، ولا يكون ذلك إلا بصلاة الليل، وقد سمّاها بالناشئة لأنها توجِد ما يحتاج إليه من طاقة مَعنَوية وروحية هائلة في ذاته وفي غيره من المتعبدين.
السَّهَر للعبادة إعلانٌ لسيطرة الرّوح على كيان القائم المتهجِّد
الصلاة في الليل في هَدأة من الحياة وسكونٍ الناس ونومهم تجعل الأنس بالله أعمق، وتزيل الحجب بين المصلي وبين الله سبحانه، إذ يتصل به من غير واسطة، ويأنس به من غير تشويش، فيتلَقّى بقلبه نور الله وفيضه، وتتنزل عليه الرحمة، وتحيط به الألطاف الربانية من كل جانب، ويُسَبِّحُ اللهَ فتتجاوب معه أرجاء المعمورة بالتسبيح والتهليل.
السَّهَر في جَوف الليل للعبادة والتَّهَجُّد وترتيل القرآن إعلانٌ لسيطرة الرّوح على كيان القائم المتهجِّد، وإيثار للإنس بالله على النوم وما فيه من لذة الراحة، وارتياضٌ في رَوْضات الجَنَّة قبل الدخول فيها في الآخرة. وإنه لَيَسكب في القلب أُنْساً وراحة ورَوْحانية قد لا يجدها في النهار لما فيه من صَخَبٍ وخِلطَةٍ بالناس.
بقلم الکاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: