
رُوِيَ ع
ن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "ساهِلِ الدَّهْرَ ما ذَلَّ لَكَ قُعُودُهُ وَلا تُخاطِرْ بِشَيْءٍ رَجاءَ أَكْثَرَ مِنْهُ".
هذه واحدة من المهارات التي يجب أن نُتقِنَها للتعامل الأسْلَم مع الزمان وأحداثه وتحوّلاته، فالزمان لا يسير على وتيرة واحدة، أحداثه متغيِّرة، وأحواله متبدِّلة، وأَيّامُه مُتَداوَلَة، تكون تارة لنا، وتارة أخرى تكون علينا، تسرُّنا حيناً، وتُحزنُنا حينا آخر، تنفرج مرَّة وتضيق أخرى، الأمر الذي يُلزمنا أن نعرف أن الزمان في تَحَوُّل مستمر، وأن نمتلك مهارة التعامل الأجدى مع تحولاته. وهذان رُكنان أساسيان للنجاح والفلاح، وشرطان ضروريان لتجاوز العقبات وتخطي المصاعب، من يُتقنهما ينجح، ومن يجهلهما أو لا يعتني بهما فالفشل أمامه.
والحقيقة أن لا فرق بين البشر من حيث ما يجري عليهم من أحداث، وما يعبرونه من أزمات، فلا أحد منا إلا وتجري عليه أحداث متغايرة، تتنوع بين السعة والضيق، والصحة والمرض، والسرور والحزن، والتعب والراحة، والصعود والهبوط، وما من أحد منا إلا ويختزن في داخله الكثير القابليات والاستعدادات والقدرات، الفرق يكمن في أن بعضنا يكتشف ما كَمن في ذاته منها فيفَعِّلها ويستفيد منها ويتعامل مع الزمان وأحداثه بها، وبعضنا الآخر يغفل عنها فلا يجيد التعامل مع الأحداث، والأسوأ منه ذاك الذي يُقنِع نفسه أنه لا يملك ما يملكه الآخرون، وأنه عاجز عما يقدرون عليه، وأن حَظَّه سيِّءٌ، وقد يتجاوز هذا لَيَتَّهِمَ الله في عدله وأنه مَنَع عنه ما وهَبَه لسواه من الناس، فمثل هذا لا يمكنه بحال من الأحوال أن يذوق طعم النجاح والفلاح.
في جوهرته الكريمة: "ساهِلِ الدَّهْرَ ما ذَلَّ لَكَ قُعُودُهُ وَلا تُخاطِرْ بِشَيْءٍ رَجاءَ أَكْثَرَ مِنْهُ" يدعونا الإمام أمير المؤمنين (ع) إلى أن نتكيَّف مع الدهر، فمعاندته غير ممكنة، ولا تجلب إلا الخسران.
والتكيُّف معه يعني أن نتعامل معه كما هو، أن نتقبَّل ما يكون فيه، فإن قَسَى لِّنا له كي لا تكسرنا عواصفه، وإن لانَ وسَهُلَ أخذنا حظنا منه.
مُساهَلَة الدهر تعني أن نواكبه في أحداثه
مُساهَلَة الدهر تعني أن نواكبه في أحداثه ونتلاءم معها فيما نتخذه من قرارات، فندور مع الزمان كيفما دار، فإذا أقبلت علينا فرصه اقتنصناها بوعي ومهارة، فما دامت ظروفه مؤاتية لنا فيجب أن نبادر إلى الاستفادة منها قدر الإمكان وبالسرعة الممكنة، فإننا لا ندري متى تتبدل الظروف، ومن المُمكن أن لا ترجع الفرصة مرة أخرى فإن الفرَصَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب، وإذا صَعُب انتظرنا أن يتحوَّل ويتبَدَّل، فإنه لن يبقى على ما هو عليه لأن من طبيعته التَّبَدُّل والتَّغَيُّر كما أسلفت، ولا يجوز أن نُحَمِّل أنفسنا فوق طاقتها، فإن الدهر سيكسرنا ساعتئذٍ.
والأمر الثاني الذي يدعونا إليه الإمام (ع) أن نتجنَّبَ المُخاطرة غير المَحسوبة عندما يلين لنا الزمان، فلا نطمع بأكثر مِمّا يُمكننا الحصول عليه في الظروف التي نعبرها، فإن ذلك قد يُودي بنا في الكثير من المَهالك. بل نركِّز اهتمامنا على الممكن فيها، ونترك ما يجلب إلينا المصاعب والخسائر.
أحياناً كثيرة وبسبب الطمع في المزيد يخاطر الإنسان مخاطرة غير محسوبة، فيخسر ما يمكن، ولا ينال ما لا يمكن، أو يخسر ما فيه يده، ولا ينال ما في يد الزمان، أما لو أجاد التعامل مع الظروف فصَبَّ اهتمامه على ما يمكن إنجازه وأعرض عمّا لا يمكن لَسَهُل عليه البناء على ذلك، فقد تسنَح له الظروف الآتية أن يحصل على ما كان صعباً المنال في ظروف أخرى، فكم من أمور كانت شبه مستحيلة ثم حصلت طفرات علمية ومعرفية فصار الحصول عليها أمراً يسيراً، ففي الأزمنة الماضية كان الطيران شبه مستحيل لكنه الآن عادي جداً، بل هو أكثر وسائل النقل أماناً.
ولذلك يجب أن يكون لدى المرء وعي بما يمكن أن يحصل عليه أو يفعله في ظرفه الحالي، ثم يساير الزمان في تحولاته وتبدلاته فيستفيد منها حسب إمكانياته ومهاراته التي يجب أن تتطور كذلك حسب تطورات الزمان، حتى إذا لاحت الفرصة لمزيد من الاستفادة ومزيد من الإنجاز أفاد منها وأنجز.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: