
يهدف هذا المقال إلى توضيح العلاقة بين "العلم الإلهي" و"العلم الاصطناعي" من منظور القرآن الكريم، ودراسة الذكاء الاصطناعي في ضوء مفهوم تسخير الطبيعة، وتقديم الحلول الأخلاقية التي يطرحها القرآن لإدارة مخاطر هذه التقنية المتقدمة. سؤالنا الرئيسي هو: كيف يمكن فهم الذكاء الاصطناعي من المنظور القرآني، وتحديد مكانته، وتحويل تحدياته إلى فرص؟
التمييز بين العلم الإلهي والعلم الاصطناعي في مرآة القرآن
لقد أكد القرآن الكريم مراراً على العلم المطلق وإحاطة الله الكاملة بالوجود، فـ كلمات مثل "عليم"، "خبير"، "حكيم"، وتعبيرات كـ "أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا" (الطلاق/ ١٢)، و"عِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ" (الأنعام/ ٥٩) تدلّ بوضوح على أن العلم الإلهي لا نهائي، وخارج عن الزمان، وكامل، وأزلي.
يرى العلامة "الطباطبائي" في تفسير الميزان أن العلم الإلهي هو عين ذات الله، فهو ليس إكتسابياً ولا محدوداً بالزمان أو المكان.
إقرأ أيضاً:
في المقابل، فإن العلم الاصطناعي أو ما يُعرف بالذكاء الاصطناعي هو معرفة يصنعها الإنسان ويصممها استنادًا إلى الخوارزميات والبيانات. وهذا العلم في جوهره محاكاة للعمليات الإدراكية البشرية، وهو محدود بالمعلومات المدخلة والمنطق المبرمج فيه.
وتشير الآية "وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" (الإسراء/ ٨٥) صراحة إلى محدودية علم البشر، وتشمل هذه المحدودية كل ما يصنعه الإنسان أيضاً.
العلم الإلهي هو علم حضوري وذاتي لا يحتاج إلى أي وسيط أو أداة. الله عالم بكل شيء، حتى قبل وقوعه. أما العلم الاصطناعي، فهو علم "حصولي" و"أداتي" يتم الحصول عليه من خلال معالجة البيانات وعلى أساس قواعد منطقية. هذا العلم يفتقر إلى الوعي والإرادة والإدراك بالمعنى الحقيقي للكلمة. يربط القرآن خلق الإنسان بتعليم الأسماء الإلهية: "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا" (البقرة/ 31).
مفهوم "التسخير" (سَخَّرَ) هو أحد الكلمات المفتاحية القرآنية التي تعني ترويض الظواهر الطبيعية ووضعها تحت تصرف الإنسان. آيات عديدة مثل: "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ" (الجاثية/ 13) و"أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ" (لقمان/ 20) تدل بوضوح على أن الله خلق العالم لاستفادة الإنسان وخدمته. هذا التسخير لا يعني السيطرة المطلقة، بل يعني القدرة على اكتشاف القوانين واستخدام الإمكانيات الطبيعية في سبيل الارتقاء والكمال. 
الذكاء الاصطناعي هو أداة تعزز بشكل كبير القدرات البشرية في مجالات مثل تحليل البيانات، واتخاذ القرارات السريعة، وأداء المهام المتكررة. وبهذا المعنى، فهو يتماشى مع الأمر القرآني بتسخير العالم وتعمير الأرض. ومع ذلك، فإن النقطة المهمة هي أن التسخير يجب أن يكون مصحوبًا بالعقل والتدبير، وأن يكون هدفه النهائي هو السير في طريق العبودية وتحقيق الخلافة الإلهية للإنسان على الأرض، وليس مجرد السعي وراء المنفعة المادية.
المخاطر الأخلاقية للذكاء الاصطناعي والإدارة القرآنية
على الرغم من المزايا العديدة، فإن الذكاء الاصطناعي يجلب معه تحديات أخلاقية واجتماعية خطيرة. ومن هذه التحديات: الظلم الخوارزمي (في الحالات التي تنتقل فيها التحيزات البشرية في البيانات إلى الذكاء الاصطناعي وتؤدي إلى التمييز)، وتقليل الوظائف البشرية، ومشكلة الخصوصية، وإمكانية إساءة استخدام هذه التكنولوجيا لأغراض غير إنسانية.
يقدّم القرآن  استراتيجيات أخلاقية دقيقة لمواجهة هذه المخاطر:
التقوى والمسؤولية: المبدأ الأساسي في إدارة أي تكنولوجيا هو "التقوى"؛ أي ضبط النفس والامتناع عن الذنوب والتعدي. تؤكد الآية "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" (المائدة/ 2). وهذا يعني أن مطوري ومستخدمي الذكاء الاصطناعي يجب أن يكونوا مسؤولين دائمًا عن العواقب الأخلاقية والاجتماعية لعملهم، وأن يمتنعوا عن بناء أو استخدام تقنيات تؤدي إلى الظلم أو التمييز أو الفساد.
العدل والامتناع عن الظلم: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ" (النحل/ 90). العدل مبدأ محوري في الإسلام. أي استخدام للذكاء الاصطناعي يؤدي إلى الظلم أو التمييز العنصري أو الجنسي أو الطبقي مرفوض من منظور القرآن. يجب السعي لتصميم الخوارزميات بشكل عادل وتقليل التحيزات البشرية فيها.
الكرامة الإنسانية: يؤكد القرآن على الكرامة المتأصلة للإنسان: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" (الإسراء/ 70). يجب ألا يصبح الذكاء الاصطناعي أداة لإهانة الإنسان أو التحكم فيه أو سلب إرادته. يجب الحفاظ على مكانة الإنسان كخليفة لله على الأرض، ويجب ألا تحل التكنولوجيا محل الحكم الأخلاقي والإنساني.
الشفافية والمساءلة: على الرغم من أنها لم تذكر صراحة في القرآن، إلا أن المبادئ العامة للإسلام تقوم على الشفافية في المعاملات والمساءلة عن الأفعال. وفيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، يجب السعي لجعل أداء الخوارزميات شفافًا وقابلًا للتفسير، وفي حالة حدوث خطأ أو ضرر، يجب أن تكون هناك إمكانية للمتابعة والمساءلة.
الأخلاق التطبيقية والتحكم الهادف: ينصح القرآن الإنسان بالاستفادة من الفرص والإمكانيات بأفضل شكل، وأن يكون حذرًا دائمًا من حدود الله. "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" (التغابن/ 16). يجب أن يخدم الذكاء الاصطناعي الأهداف الإنسانية السامية وليس العكس. وهذا يتطلب وضع قوانين وبروتوكولات أخلاقية ورقابة مستمرة على تطوير هذه التكنولوجيا وتطبيقها.
بقلم  الباحث الايراني في الشؤون الدينية، "رضا ملازاده يامتشي"