ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّة...

مَنْ أَصْبَحَ يَشْكُوُ مُصيبَةً نَزَلَتْ بِه فَإِنَّما يَشكُوُ رَبَّهُ

21:54 - November 07, 2025
رمز الخبر: 3502328
بيروت ـ إکنا: إنّ الحياة في معناها الأعمق ليست وعدًا بالراحة، بل دعوةً إلى التفكّر والفهم. إنها لا تمنح الإنسان ما يشتهي، لكنها تمنحه ما يحتاج إليه ليعرف نفسه والعالم.

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ أَصْبَحَ يَشْكُوُ مُصيبَةً نَزَلَتْ بِه فَإِنَّما يَشكُوُ رَبَّهُ".
 
لا مأمنَ لأحدٍ في هذه الحياة الدنيا من أن تُصيبه سهامُ المصائب، فإن طبيعتها أنها متحوِّلةٌ بأهلها من حالٍ إلى حال. هي في جوهرها حركةٌ دائمةٌ بين عطاءٍ وأخذٍ، ومن يعيش الحياة لا بدَّ أن يختبر وجوهًا متعدّدة من المصائب تصيبه في نفسه، أو في ماله، أو في أحبّته. فمذ وُلد الإنسان، دخل إلى عالمٍ لم يُصمَّم ليُشبِع جميع رغباته، بل ليُشكِّله من خلال ما يمنحه وما يأخذه منه، أو يحجبه عنه.

إنّ فكرةَ أن تكون الحياة خاليةً من المصائب والاختبارات والآلام هي في أصلها وَهْمٌ نابعٌ من رغبة الإنسان في أن ينال كلَّ ما يشتهي .لكنّ عالمَ الدنيا لا يعمل وفق مقاييس رغباتنا، بل وفق نظامٍ متوازنٍ تتكافأ فيه الكثرةُ مع الندرة، والسعادةُ مع الألم، والبقاءُ مع الفناء.
 
فالمصائبُ إذن ليست خروجًا عن نظام الوجود، بل هي جزءٌ من توازنه؛ فالحياة تكتسب معناها من تناقضاتها لا من انسجامٍ مطلقٍ فيها، وهذا ما يجعلها تجربةً فكريةً وروحيةً في آنٍ واحد، إذ تُرغم الإنسان على التأمّل في هشاشته، وتُواجهه في كلّ لحظةٍ بمحدوديته وفقره وعجزه.
 
ومن هنا، فإن على الإنسان أن يتوقّع تقلّبات الحياة لا بوصفها تهديدًا، بل بوصفها مظهرًا من مظاهر حقيقتها. إنَّ من يعيش منتظرًا الثباتَ يعيش في توتّرٍ دائم، أمّا من يُدرِك أنَّ كلَّ شيءٍ قابلٌ للتحوّل، فإنّه يتصالح مع نظام الوجود، ومع ذاته في الوقت نفسه. فاليقينُ الوحيد في الحياة هو التغيّر، والتعاملُ مع هذا التغيّر هو ما يصنع نُضج الإنسان واتّزانه.
 
الحياةُ في معناها الأعمق ليست وعدًا بالراحة، بل دعوةً إلى التفكّر والفهم. إنها لا تمنح الإنسان ما يشتهي، لكنها تمنحه ما يحتاج إليه ليعرف نفسه والعالم. ولعلّ أعظمَ أشكال الوعي أن يتقبّل الإنسان هذا القانون الكوني بلا مرارة: أن يعطيه الوجودُ بقدر ما يأخذ منه، وأن يفقدَ ليُدرِكَ قيمة ما يملك، وأن يتألّم ليَعلم أنه حيّ.
 
بهذا المعنى، لا تكون المصائبُ أعباءً تُثقل كاهلَ الإنسان، بل محطّاتِ تأمّلٍ تكشف عن جوهر التجربة الإنسانية مع الحياة وأحداثها. أن يعيش المرءُ وهو يعلم أنَّ كلَّ ما بين يديه مؤقّت، ومع ذلك يستمرّ في العمل والسعي والأمل. تلك هي الحكمة التي لا يتعلّمها الإنسان من الرّاحة والصحّة والأمان، بل من البلاء أيضًا.
 
وفي هذا السياق تأتي جوهرةُ الإمامِ أميرِ المؤمنين (ع): "مَنْ أَصْبَحَ يَشْكُو مُصِيبَةً نَزَلَتْ بِهِ، فَإِنَّمَا يَشْكُو رَبَّهُ"، لتكشف لنا حقيقةً تغيب عنّا ساعةَ الألم، وتُزيح الحجابَ عن قلوبنا حين تصيبُها المصائب. فالشكوى في ظاهرها حديثٌ عن الألم إلى المخلوقين، ولكنّ الإمام (ع) يدعونا إلى تأمّل البُعد الخفيّ لهذا الفعل، فعندما نشتكي المصيبةَ إلى غير الله، فكأننا نعتبر أنَّ هذا "الغير" قادرٌ على ردّها من جهة، وأنّ الله تعالى هو المسؤول عنها من جهةٍ أخرى. وبكلمةٍ أخرى: حين يشكو الإنسان مصيبةً نزلت به إلى شخصٍ ما، فكأنّه يشكو اللهَ إليه.
 
الشكوى هنا، كما يراها الإمام أمير المؤمنين (ع)، نوعٌ من الاعتراض الضمنيّ على الله تعالى؛ كأنّ الإنسان يقول في سرّه: "لماذا أنا؟ ولماذا الآن؟ هذا ليس عدلاً!" وفي هذا المسار النفسيّ، يكون قد حوّل المصيبةَ من اختبارٍ لإيمانه وصبره إلى مواجهةٍ – ولو في أعماق نفسه – مع مشيئة الله.
 
إنّ الله تعالى يعلّمنا أن نشكو ما يصيبنا إليه لا إلى سواه، لأنه وحده الذي بيده النفعُ والضرّ، والموتُ والحياة، وهو الذي يُعِزّ من يشاء ويُذِلّ من يشاء. وقد نقل القرآنُ لنا شكايةَ أيوبَ النبيّ (ع) إلى ربّه بقوله تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴿الأنبياء:83﴾ فأيوبُ (ع) يُقرّ بحقيقة الألم: "مَسَّنِيَ الضُّرُّ "، لكنه يلجأ إلى الله تعالى موقنًا من رحمته ورأفته ولطفه: "وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" إنه يشكو حالَه إلى ربّه، لا يشكو قضاء ربّه، والفرق بين الحالتين هو الفرق بين اليأس والرجاء، بين الجحود والشكر، بين القلق والطمأنينة.
 
فالإمام (ع) لا يطلب منّا كبتَ مشاعرنا، بل يوجّهها إلى المسار الصحيح، فالمصائب حقّ، والألم واقع، ولكنّ الإيمان يمنحنا البوصلةَ التي تتّجه دائمًا نحو السماء.
 
الشكوى للناس قد تجلب عطفًا مؤقتًا، لكنها نادرًا ما ترفع الهمّ، أمّا الشكوى إلى الله، فإنّها تفتح أبوابَ الرحمة، وتُنزل السكينة، فتغدو المصيبةُ سبيلاً إلى القُرب من الله، لا سببًا للبعد عنه.

بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي
captcha