ایکنا

IQNA

معجزة الكوثر في القرآن الكريم

14:39 - June 08, 2025
رمز الخبر: 3500462
إکنا: أجمع علماء التفسير على أن سورة الكوثر تنطوي على أكثر من معجزة في ما ابتنت عليه من حروف وكلمات وتراكيب، فضلًا عن ما ترشد إليه من دلالات لا تزال تبعث على الحيرة عند أهل البيان والبلاغة والفصاحة!

وأجمع علماء التفسير على أن سورة الكوثر تنطوي على أكثر من معجزة في ما ابتنت عليه من حروف وكلمات وتراكيب، فضلًا عن ما ترشد إليه من دلالات لا تزال تبعث على الحيرة عند أهل البيان والبلاغة والفصاحة!

فهي منتظمة في سلك إعجازي وبياني يرقى بها إلى أن تكون سورةً تماثل بين التكوين والتشريع! وتُعجز لغات العالم عن أن تجد لها منافذ تعبيرية كافية لتظهيرها وفق ما جاءت به من لسان عربي مبين!

فأنى لمن ارتووا بمعين اللسان والبيان، أن يجدوا لها انتظامًا من خارج وحي السماء أو أن يتجاهلوا خصوصية الكوثر لأهله على مدى الأزمان!؟ فالسورة تُعجز في صدق النبوة للرسول(ص)، وفي كثرة الذرية والأتباع، وكذلك هي تُعجز في ما أخبرت عنه من بترية للأعداء وكل شنآن! وقد تحقق هذا التنبؤ في أعداء النبي(ص)،فلم يبق لهم ذكرٌ إلا اللعن على كل لسان،وفي كل مكان.

إقرأ أيضاً:


فكان الكوثر في مطلق الخير مما يصح فيه الإعطاء، ويحق فيه الإيتاء لرسول الله وذريته ممن امتدت بهم النبوة،كوثرًا، وصلاةً، ونحرًا،ونهرًا،وحوضًا،ونجاةً،وفوزًا مطلقًا بالعطاء،كما قال تعالى:"ولسوف يعطيك ربك فترضى..".كان ينبغي على المفسرين للقرآن في مناهجهم المختلفة عدم تجاوز الانتظام القرآني بخصوص استخدام المفردات القرآنية في سياقاتها المختلفة،بحيث يتم التمييز بين ما تعنيه بعض المفردات من عموم وخصوص على نحو ما بيّن القرآن في كثير من آياته التي ميّز فيها بين الإيتاء والإعطاء،فقوله تعالى:":"إنا آتيناك سبعًا من المثاني والقرآن العظيم…،"،هو غير قوله تعالى:"إنا أعطيناك الكوثر."

فلكل من الآيتين دلالته الخاصة.فالإيتاء أعم وأشمل من الإعطاء،فالأول يكون في ما هو مادي،وفي ما هو غير مادي.أما الإعطاء،فلا يكون إلا في الأمور المادية،كما قال تعالى:"وأعطى قليلًا وأكدى".

وهناك أمور،كما يقول أهل البيان،لا يصح استخدام أعطى فيها أصلًا،كالحكمة والرشد والرحمة.وما دامت كلمة "آتى"أوسع استعمالًا،فلماذا لم يستعمل القرآن الكريم آتى بدل أعطى في قوله تعالى:"إنا أعطيناك الكوثر."

فالقرآن يبيّن في سياقات مختلفة معنى أن يكون الإيتاء شاملًا وعامًا،كما قال تعالى:"وما أوتي النبيون من ربهم.."والإيتاء هنا يشمل كل ما خصّ بها الأنبياء من إتيتاءات مادية ومعنوية،إيتاء يشمل الرسالات السماوية،والمعجزات،ولكن هذا الإيتاء لا يعد إعطاءً،لكون الإعطاء هو في حقيقته تمليك.

أما الإيتاء فليس كذلك،لأنه قابل للنزع،ولهذا قال  تعالى عن الإيتاء بأنه يمكن أن ينسلخ عن من أوتيه،كما قال تعالى:"واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا،فانسلخ منها…".إذاً الإيتاء أعم وأوسع من الإعطاء..وبما أن الكوثر قد أعطى لرسول الله(ص)،بما هو تمليك،فإنه يشتمل على كل ما هو غير قابل للنزع أو الانسلاخ، فلا تكون النبوة والقرآن من هذا الإعطاء كما زعم كثيرٌ من المفسرين!

بل هو يقتصر على الذرية وعلى خير الدنيا والآخرة، ويدخل في ضمن ذلك نهر الكوثر والحوض وكل ما تعنيه مفردة الكوثر من خير مطلق،ويمكن لأي باحث أن يتدبّر في ما تفيده آيات الإيتاء بما هو عطاء،كما في قوله تعالى:"وآتوني زبر الحديد.."وغيرها من الآيات التي تفيد العطاء بما هو عطاء مادي،وقابل للتمليك،كما قال تعالى لسليمان(ع):"هذا عطاؤنا،فامنن،أو أمسك بغير حساب…".فإذا وقفنا مليًا عند انتظام هذه المفردات في ما تفيده بكل اشتققاتها.

فإننا نجد القرآن الكريم يقدمها لنا في فضاء دلالي متمايز يمنع من القول بترادفها، ويعطي لكل مفردة دلالتها الخاصة أو العامة،وفق ما يقتضيه السياق،وتحتمه الدلالة،فليس لأحد أن يزعم أن الإيتاء قابل لأن يملّك،فكل إعطاء في النتيجة،هو إيتاء،ولكن ليس كل إيتاء إعطاءً.

فالله أعطى لرسوله الكوثر، ولم يؤته إياه على نحو ما آتاه السبع المثاني والقرآن العظيم،وإنما على نحو التمليك غير القابل للانسلاخ كما أشرنا آنفًا،وهذا ما أخطأ فيه كثير من علماء التفسير،فرأوا أن إعطاء الكوثر يشتمل على كل معاني الإيتاء،وهذا ليس صحيحًا في واقع كون كل مفردة لها دلالتها الخاصة،بين أن تكون كوثرًا في الإعطاء،أو كوثرًا في الإيتاء.

وانطلاقًا من ذلك،نرى العلماء يخلطون بين المفردات في سياق الانتظام القرآني،ويعطون الإعطاء شمولية الإيتاء،فقالوا:إن الله أعطى الكوثر لرسوله،قرآنًا، ونبوةً ،وذريةً،ونهراً في الجنة،دون تمييز بين ما هو تمليك،وبين ما هو قابل للنزع!ولو أن العلماء تدبّروا في سورة الكوثر في إطار منظومة القرآن،لكانوا وقفوا على هذا المعنى،وعرفوا أن السورة في ما تأتي عليه من مقابلة بين الكوثر والأبتر،تؤكد على أن الكوثر المطلق في الخير له دلالته المفيدة في كثرة الذرية والأتباع،وذلك باعتبار شأن النزول وكلمة:"الأبتر" التي أطلقها أعداء النبي ص ضدّه،فجاءت السورة لتؤكد على الكوثر بما هو إعطاء لخير الدنيا والآخرة.

وبناءً على ما تقدم،يبقى سؤال كل باحث ودارس في العلوم القرآنية،لماذ لم تدخل الأمة الإسلامية في ضمير هذا الكوثر،ليكون لها كل خير؟وهل ما عايشته الأمة من أحداث،واختلفت عليه من مبادىء وأحكام وبيّنات،يثبت أن هذه الأمة قد حظيت ببركات هذا الكوثر النبوي؟أم أن الأمة خسرت هذا الكوثر،وانكشفت عن كل بلاء في دينها ودنياها؟

إن الله تعالى جمع لرسوله كل خير في هذه الآية،وجعله مطلقًا له بإفادة حذف الموصوف وبقاء الصفة،كما في قوله تعالى:"إنا أعطيناك الكوثر."،وهذا ما كان ينبغي التدبّر فيه جيدًا،ليتذكّر أولوا الألباب،أن كوثر النبي(ص) ليس مخصوصًا به،وإنما هو لذريته أيضًا،وقد أنبأنا اللطيف الخبير،أن شأنية الأمة وكيانها الوجودي،مرتبط بهذا الكوثر وجودًا وعدمًا،لكونه ينطوي على كل خير،فلا تكون الصلاة،ولا النحر من خصوصية النبي وحده،بل تتعداه إلى أمته،لتكون خير أمة أخرجت للناس.!

لقد كشفت تحولات الأمة في تاريخها عن شر كثير وبترية لا مثيل لها في تاريخ الأمم،وهذا إن دّل على شيء ،فإنه يدل على مدى ما بلغته هذه الأمة من نزعٍ وجودي،بخلاف ما كان لنبيها من الكوثر في الدنيا والآخرة.والسلام.
 
بقلم أ.د.فرح موسى؛ رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان
captcha