
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَن عامَلَ النّاسَ بِالْجَميلِ كافَؤوهُ بِهِ".
لا تقوم العلاقات الإنسانية كيفما كان، بل لا بد أن تقوم على معايير أخلاقية راسخة، وقد هدى الله الإنسان -بما أودع في فطرته، وما وهبه من عقل- إلى معرفة تلك المعايير الأخلاقية التي تتصف بالثبات والدوام والشمول، كي تستقر الحياة الإنسانية وتستقيم، وتؤتِي أُكُلَها كل حين، وقد جاءت هذه الجوهرة العلوية الكريمة لتجسِّد واحداً من تلك المعايير التي تحكم تعامل الإنسان مع غيره، فهي تشير إلى قانون المعاملة بالمثل، الذي تؤكده التجربة البشرية المتمادية، وتُقِرُّه الفطرة السليمة، ويؤيده العقل السليم، وتقرِّه الشريعة الإسلامية السمحاء.
حيث نقرأ قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴿البقرة: 194﴾ فالآية تبيح المعاملة بالمثل على صعيد العدوان، فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، أي ردوا العدوان بالعدوان، وجاء في الحديث عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: "رُدُّوا الحَجَرَ مِنْ حَيْثُ جاءَ فَإِنَّ الشَّرَّ لا يَدْفَعُهُ إِلّا الشَّرَّ".
إن الإسلام لا يجيز العدوان بحال من الأحوال، وتشريعاته في هذا المجال واضحة وحاسمة، ولكنه لا يقبل بحال من الأحوال أن يُعتَدى عليه ويُترَك الأمر دون ردٍّ، لأن ذلك يبعث المعتدي على مزيد من العدوان والظلم، لذلك يعطي الحق للمظلوم والمعتَدى عليه أن يُقابل العدوان بالمثل.
هذا على صعيد العدوان، أما على صعيد الإحسان، أي إذا أحسن شخص إليك، أياً يكن ذلك الشخص المُحسِن، فيجب عليك عقلاً وشرعاً أن تقابل إحسانه بإحسان مثله، قال تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴿الرحمان:60﴾ فهذه حقيقة فطرية يشهد بها الجميع: ان الإحسان لا يكافأ إلا بالإحسان، والقرآن يستثير في البشر ركائز فطرتهم ليستشهد بها على أنفسهم بما جبلوا عليه، وتعارفوا فيما بينهم به.
إذاً: بقوله: "مَن عامَلَ النّاسَ بِالْجَميلِ كافَؤوهُ بِهِ" يكشف الإمام أمير المؤمنين (ع) القاعدة المحورية في العلاقات الاجتماعية، فالناس بطبعهم يحبّون من يراعي مشاعرهم، ويعاملهم بالطريقة التي يفضلون أن يُعامَلوا بها، فمن قدّم الاحترام لهم قابلوه بالاحترام، ومن عاملهم بالجميل عاملوه بالجميل وكافؤوه به، والمكافأة هنا قد تكون مادية أو معنوية، عاجلة أو مؤجلة، ولا يقصِّر فيها إلا الجاحد الكَفور، أما الغالبية العظمى من الناس فإنهم لا ينسون الجميل من القول والفعل الذي يُعامَلون به، وهذا ما يعمِّق العلاقة بين الناس، ويبني بينهم جسوراً من المودة والرحمة والولاء.
نستنتج مما سبق أن طريقة تعامل الشخص مع الناس هي التي تحدد طريقة تعاملهم معه، فإن أحسن إليهم أحسنوا إليه، وإن أساء إليهم ردّوا على إساءته، إن كان صادقاً، مخلصاً، وفِياً، متواضعاً، متفهّماً، فسيجد الناس أنفسهم مدفوعين إلى معاملته بالمثل، وإن كان فظاً، غليظ القلب، متكبراً، فلا ينتظر منهم إلا الجفاء والغِلظة في التعامل.
ومما لا شكَّ فيه أن معاملة الناس بالجميل يُساعد على بناء علاقات اجتماعية قوية، مبنية على الثقة، والاحترام المتبادل، ويخفِّف النزاعات والعداوات، وينشر قِيَم الرحمة والمودة، ويساهم أولاً وأخيرا في تهذيب النفوس وتنمية فضائلها، وتجعل الإنسان قدوة يقتدي الناس به.
بقلم الباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي