ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنِ اسْتَغْنى عَنِ النّاسِ أَغْناهُ اللّهُ".
من يترفَّع عن الحاجة إلى الناس، ويتجنَّب المَذَلَّة بين أيديهم، ويعتمد على نفسه، ويتوجَّه بحاجاته إلى الله، ثقة منه برازقيته، فإن الله يغنيه ويرزقه من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب، ويحفظ له كرامته، ويصون عِزَّته.
تلك هي سُنَّة الله التي لا نجد لها تبديلاً ولا تحويلاً، فالذي يترك التعلّق بالخلق، ويتوجّه بثقته إلى الخالق، ويتقِ الله، يلاقيه الله بتسهيل أموره، وفتح أبواب الرزق له، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴿2﴾ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴿الطلاق:3﴾.
إقرأ أيضاً:
والاستغناء عن الناس لا يعني التعالي عليهم، ولا الغرور، ولا القطيعة معهم، بل يعني التحرّر من التعلّق المذلّ بهم، ومن الحاجة إليهم في كل صغيرة وكبيرة، فالإنسان المؤمن يوجّه حاجاته إلى الله أوّلًا، ثم يعمل ويجتهد، دون أن يجعل اعتماده الكلي على أحد من البشر.
ومما لا شكَّ فيه أن الاعتماد الدائم على الناس لا يؤدي إلى الذلّ وفقدان الكرامة وحسب، بل يفضي إلى قتل طاقات الإنسان وقابلياته وإبداعه، ويحوِّله إلى عالة دائمة على المجتمع. أما من يستغني عنهم، فإنه يحفظ ماء وجهه، ويكتشف قدراته، ويفعل قابلياته، ويضع نفسه على طريق الاكتفاء الذاتي، والاستغناء عن الناس، وفي ذلك من الكرامة ما فيه.
الاستغناء عن الناس يولّد في النفس الشعور بالرضا والطمأنينة، لأن صاحبه لا يعيش في قلق دائم من ردّة فعل الناس وانقباضهم النفسي منه، وتجهمهم في وجهه، وامتهانهم كرامته.
والاستغناء عن الناس يُعمّق العلاقة مع الله، ويزيد من التوكّل عليه، وهو من أعلى مراتب الإيمان، وقد جاء في الحديث أن رسول الله (ص) سأل جبرائيل (ع) عن التوكل على الله فقال: العِلمُ بأنّ المَخلوقَ لا يَضُرُّ ولا يَنفَعُ، ولا يُعطي ولا يَمنَعُ، واستِعمالُ اليَأسِ مِن الخَلقِ، فإذا كانَ العَبدُ كذلكَ لَم يَعمَلْ لأحَدٍ سِوَى اللَّهِ، ولَم يَرْجُ ولَم يَخَفْ سِوَى اللَّهِ، ولَم يَطمَعْ في أحَدٍ سِوَى اللَّهِ، فهذا هُو التَّوكُّلُ".
وأختم هذه المقالة بما رُوِيَ عن الإمام جعفر الصادق (ع) أنه قال: اِشْتَدَّتْ حَالُ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ اَلنَّبِيِّ (ص) فَقَالَتْ لَهُ اِمْرَأَتُهُ: لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اَللَّهِ (ص) فَسَأَلْتَهُ، فَجَاءَ إِلَى اَلنَّبِيِّ (ص) فَلَمَّا رَآهُ اَلنَّبِيُّ قَالَ: مَنْ سَأَلَنَا أَعْطَيْنَاهُ وَمَنِ اِسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اَللَّهُ.
فَقَالَ اَلرَّجُلُ: مَا يَعْنِي غَيْرِي، فَرَجَعَ إِلَى اِمْرَأَتِهِ فَأَعْلَمَهَا، فَقَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ بَشَرٌ فَأَعْلِمْهُ، فَأَتَاهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اَللَّهِ (ص) قَالَ: مَنْ سَأَلَنَا أَعْطَيْنَاهُ وَمَنِ اِسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اَللَّهُ.
حَتَّى فَعَلَ اَلرَّجُلُ ذَلِكَ ثَلاَثاً، ثُمَّ ذَهَبَ اَلرَّجُلُ فَاسْتَعَارَ مِعْوَلاً، ثُمَّ أَتَى اَلْجَبَلَ فَصَعِدَهُ فَقَطَعَ حَطَباً، ثُمَّ جَاءَ بِهِ فَبَاعَهُ بِنِصْفِ مُدٍّ مِنْ دَقِيقٍ، فَرَجَعَ بِهِ فَأَكَلَهُ، ثُمَّ ذَهَبَ مِنَ اَلْغَدِ فَجَاءَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَبَاعَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَعْمَلُ وَيَجْمَعُ حَتَّى اِشْتَرَى مِعْوَلاً، ثُمَّ جَمَعَ حَتَّى اِشْتَرَى بَكْرَيْنِ وَغُلاَماً، ثُمَّ أَثْرَى حَتَّى أَيْسَرَ، فَجَاءَ إِلَى اَلنَّبِيِّ (ص) فَأَعْلَمَهُ كَيْفَ جَاءَ يَسْأَلُهُ و كَيْفَ سَمِعَ اَلنَّبِيَّ (ص)، فَقَالَ اَلنَّبِيُّ (ص) قُلْتُ لَكَ: مَنْ سَأَلَنَا أَعْطَيْنَاهُ وَمَنِ اِسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اَللَّهُ.
خلاصة القول: من أراد أن يغنيه الله، فليتجنَّب السؤال من الناس ما أمكنه، وليحرر نفسه من التعلَّق بما في أيديهم، ويسعى في حاجاته قدْرَ ما يستطيع، ويهيء الأسباب الممكنة، ويثق بالله وحده، ويتوكل عليه.
بقلم الباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي