
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ طَلَبَ ما لا يَكُونُ ضَيَّعَ مَطْلَبَهُ".
يُنبِّه الإمام أمير المؤمنين (ع) في جوهرته هذه إلى حتمية بالغة الأهمية، ذات صلة بما يختاره المرء لنفسه من أهداف، وما يسعى إليه من غايات، فإن الناس في هذا المضمار صنفان:
صنف: يتخطى الواقع في أهدافه وغاياته، تتحكم فيه الأماني، يطلب ما لا يمكن الحصول عليه، وهذا الصنف دائماً ما يخفق في الحصول على مطلوبه، وهذا نحو من إلقاء النفس في التهلكة، لأنه يستنزف وقته، وموارده، وإمكانياته، وتفكيره دون طائل، والله تعالى ينهانا عن إلقاء أنفسنا في التهلكة حيث يقول: ... وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿البقرة: 195﴾ ولا جدال في أن السعي نحو هدف غير ممكن التحقق هو من أسوأ صور التهلكة.
وهنا لا بُدَّ من التنبيه إلى ضرورة التمييز بين الأهداف الممكنة -ولو كان تحققها يتطلب بذل جهود كثيرة، أو متاعب، أو مواجهة تحديات وتجاوز عقبات، وصبر، وسوى ذلك، فهنا على الإنسان أن يكافح ويبذل ما يمكنه من الجهود، ويصبر على متاعب الطلب، وسيصل حتماً نهاية المطاف وفق قاعدة "مَن جَدَّ وَجَدَ"- وبين الأهداف غير ممكنة التحقق مطلقاً أو يمكن أن تتحقق في المستقبل البعيد.
وفي هذا لا بُدَّ من التمييز بين الأهداف الشخصية والأهداف العامة، فالأهداف الشخصية يجب أن تكون قابلة للتحقق ولو تطلَّبت الصبر والمعاناة، أو أو كان تحققها يحتاج إلى وقت طويل جداً حين يبلغ المرء من عمره عُتياً، فهذه ليس من الخطأ أن يطلبها المرء، أما الأهداف التي يعلم أنها لا تتحقَّق له فلا ينبغي له أن يطلبها، كتلك التي تحتاج إلى وقت يتجاوز عمره، أو غيرها.
هذا عن الأهداف الشخصية، أما عن الأهداف العامة، أي الأهداف التي لها صلة بالمجتمع أو الجماعة أو الأمة فلا بد للفرد من أن يضعها للأمة حتى ولو كانت غير قابلة للتحقق في اللحظة الراهنة، وحتى ولو تطلب تحققها إلى قرون من الزمن، ثم يسعى هو ويحثَّ أبناء الأمة على السعي إلى تحقيقها، فالأمة هنا بسلسلة أجيالها بمثابة الفرد الواحد، وما يتحقق من أهدافه للأجيال القادمة تشاركهم فيه الأجيال المتقدمة عليهم، لأن الجميع ينخرطون في مسار واحد، وكل منهم يؤدي ما عليه إلى أن تبلغ الأمور الذروة نهاية المسار، والأمثلة الحيَّة لذلك كثيرة، فحركات الاستقلال والمقا،و.مة حققت أهدافها بعد مسار طويل من المتاعب والمصاعب، وبعد أن ارتقى من أفرادها عشرات بل مئات ألاف الشهداء، وقدمت تضحيات جسيمة، فجنت الأجيال الحاضرة ما زرعته الأجيال الأولى، وسقته الأجيال الوسيطة.
ما سبق كان عن الصنف الأول، أما الصنف الثاني من الناس فهو الواقعي فيما يطلب ويرغب، لا أمانيَ تسوقه و "الأماني بِضاعَةُ النَّوكى" أي الحمقى، ولا يضع لنفسه أهدافاً غير قابلة للتحقق، بل يسعى إلى ما يمكنه تحقيقه والفوز به، ثم ينتقل إلى هدف ثانٍ وثالث وهكذا دواليك، كلما حقق هدفاً دفعه إلى تحقيق المزيد مستفيداً من تجربته، مراكماً خبرته، ما يُسَهِّل عليه تحقيق الأهداف التالية، وهذا ما يؤكِّده المتخصصون في علم النفس، حيث يرون أن الإنسان عند سعيه لهدف قابل للتحقيق يبقى متحفّزاً، أما الأهداف المحال تحقيقها فتُنقِص الدافعية لدى المرء، وتُشعِره بصعوبة الحياة، وتدعوه إلى اليأس والإحباط.
لذلك من الضروري قارئي الكريم أن نميِّز بدقة بين ما يمكننا تحقيقه من الأهداف وما لا يمكن، ثم نختار أهدافنا بعناية، ونوجِّه إمكانياتنا وطاقاتنا نحو تحقيقه، مستعينين بالله تعالى، طالبين منه التوفيق فيما نسعى إليه.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي