
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ غَلَبَ هَواهُ عَلى عَقْلِه ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْفَضائِحُ".
ركَّب الله في الإنسان غرائز وشهوات، لا يمكنه أن يندفع نحو حاجاته المادية والمعنوية من دونها، ووهبه العقل الذي يميز بين الحسَن والقبيح من الأمور، والذي يدير تلك الغرائز والشهوات ويضعها في إطارها الصحيح، ويوجهها نحو الغايات النبيلة، ويكبح اندفاعها نحو الخطأ والقبيح من الأمور، لأنها جموح بطبعها ولا يمكن أن تترك على هواها.
والناس حيال الشهوات والأهواء أصناف:
صنف: يقمع شهواته أو بعضها بالكلية، لا يستجيب لها أبداً، ولا يلبيها في شيء، كالذي يُمتنع عن الزواج مثلاً، وهذا خطأ كبير، فالزواج ضروري للنوع الإنساني، ومن طريقه وحده يحصل التناسل والتكاثر، ويُحصِن الإنسان، ويلبي حاجاته الجنسية، ولذا يرقى إلى مرتبة الواجب الإنساني والديني، ولا يتعارض مع إقبال الإنسان على شؤونه الحياتية الأخرى، كما لا يمنعه من الترّقي الروحي والمعنوي، ولا من الإقبال على الله تعالى بالعبادة.
وصنف: ينظر إلى الشهوات والغرائز نظرة إيجابية، يراها دوافع ضرورية له، وأن الله الحكيم العليم الخبير أوجدها فيه لغايات سامية، فلا يكبتها ولا يُطلق العنان لها، بل يتعامل معها باعتدال دون إفراط ولا تفريط، ويتحكَّم فيها بدل أن تتحكَّم فيه، ويوجِّهها بالاتجاهات التي يقبلها العقل، والتي ترجع عليه بالنفع المادي والمعنوي في دنياه وآخرته.
وصنف: يُطلِق العنان لشهواته وأهوائه، يتركها على رسلها تأخذه متى وأنّى تشاء، ويخضع لمشيئتها، ولا يقوى على كبح جماحها، فيصير تابعاً لإرادتها بدل أن تكون هي تابعة لإرادته، فتستعبده وتسلبه اختياره وإرادته، وتنتهي به إلى عواقب وخيمة قاتلة، وتتردّى به من علياء الإنسانية السامية إلى ما دون الحيوانية، إذ إن الحيوان يتحرَّك في حياته على هدى غرائزه وحسب، وليس لديه عقل يميِّز بين الحُسنِ والقُبح، ورغم ذلك نراه لا يتمادى في غرائزه بل يكتفي بما يسدُّ حاجاته، بخلاف الإنسان فإننا نجده حين تستعبده أهواؤه لا يكفيه شيء، ولا يُشبِعه شيء، ولا يردعه شيء، ولهذا نراه يعيث في الأرض خراباً وفساداً، ويقتل ويعتدي ويظلم، رغم معرفته بقبح ذلك، أما الحيوان فلم يُفسِد في الأرض، لم يخرِّب الطبيعية، بل رغم كونه يتحرك بدوافع غريزية بحتة نراه متوائماً مع قوانين الطبيعة، جارياً عليها، أما الإنسان فهو المسؤول عن كل الخراب والدمار والفساد فيها.
ولهذا نجد القرآن الكريم يحمِّل المسؤولية عن الفساد في الأرض للإنسان، ولا يقتصر الفساد هنا على الصعيد العقدي والفكري والأخلاقي، بل يعم كل فساد يحدث في الطبيعة، قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿الروم:41﴾ وهذه كما ترى قارئي الكريم من أوخم وأسوأ عواقب عبودية الإنسان لشهواته واستسلامه لأهوائه.
في قول الإمام (ع): "مَنْ غَلَبَ هَواهُ عَلى عَقْلِه ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْفَضائِحُ" يشير إلى عواقب أخرى لغَلَبَة الهوى على عقل الإنسان، فالذي يضع عقله جانباً ويتبع أهواءه دون تفكير ودون وعي ودون تدبُّر في العواقب سينتهي به المطاف إلى الفجور والوقع في أخطاء قاتلة، وسلوكيات مُشينة، يخرج بها عن مقتضيات العقل والدين والعرف العام، مما يؤدي إلى فضيحته بين يدي الناس.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي