"بسم الله الرحمن الرحيم
لم تكن كربلاء مجرّد فاجعة دامية على هامش التاريخ، بل كانت زلزالًا سياسيًا عصف بجذور الدولة الإسلامية، وغيّر شكل العقل الجمعي للأمة. هناك، في طف كربلاء، لم يُقتل الامام الحسين(ع) وحده، بل قُتلت معه العدالة بوصفها جوهر الحكم، واغتيلت شرعية الدولة التي كانت يومًا تستمد سلطانها من الوحي، لا من السيف.
أولًا: من خلافة العدل إلى سلطنة القهر:
قبل كربلاء، كانت السلطة السياسية ـ وإن شابتها اضطرابات ـ تتكئ على رمزية دينية وشعور عام بالانتماء إلى تجربة نبوية. أما بعد كربلاء، فقد تجرّدت الدولة من قداستها الظاهرية، وباتت تعلن ـ أو تكاد ـ أنها ليست امتدادًا لوحي، بل استمرارٌ لمُلك عضوض.
قال يزيد بن معاوية في لحظة سكر سلطوي: "لعبت هاشمُ بالملك، فلا خبرٌ جاء، ولا وحيٌ نزل".
بهذا التصريح، سقط آخر قناعٍ عن وجه الدولة، وأُعلن الانتقال من ما يسمى الخلافة إلى المَلكية المستبدّة. لم تعد السياسة وسيلة لتحقيق العدل، بل أداة لحماية العرش وترسيخ الطغيان.
ثانياً: شرعنة السلطان وتحريم الثورة:
بعد كربلاء، بدأ تيارٌ فقهي وسياسي واسع يعمل على إعادة ترميم "هيبة الدولة" المنهارة، لا بإصلاحها، بل بإضفاء القداسة على استبدادها.
وبرزت مقولات مثل: "لا يجوز الخروج على الحاكم، وإن كان فاسقًا، ما دام يُقيم بعض شعائر الإسلام".
هكذا، لم يُحرّم الظلم، بل حُرّمت الثورة عليه. ولم يُكفَّر الظالم، بل كُفِّر من سار على خُطى الحسين(ع).
باتت الطاعة مقدّسة، والمعارضة فتنة، والثائر ـ مهما بلغ نُبله ـ متّهمًا بسوء التوقيت أو شق الصف. كل ذلك تحت مسمّيات براقة: "وحدة الأمة"، و"درء الفتنة"، و"سدّ الذرائع".
لكن الحقيقة أن هذا المسار لم يُولد من فقه بارد، بل من رُعب عميق من تكرار كربلاء، ومن انهيار شرعية الحكم أمام صرخة "هيهات منا الذلة".
ثالثًا: تغييب أهل البيت(ع)… وإقصاء العدالة:
كربلاء لم تكن مذبحة أجساد فحسب، بل كانت مشروع إقصاء منهجي لخط أهل البيت(ع) من الفضاء السياسي والمعرفي للأمة. فقد مُنِع ذكر مناقبهم، وجرى تشويه تاريخهم، وتقديم رموز بديلة على حسابهم.
بل وصل الأمر إلى تجفيف منابع التأثير العلمي والفقهي للأئمة، رغم أنهم الامتداد الطبيعي لرسالة النبي (ص).
وقد أُقصي العدل حين أُقصي علي، وغُيّبت القدوة حين غُيّب الحسين.
حتى كتب الحديث والتفسير، في كثير من مدارسها، تعاملت مع أئمة أهل البيت(ع) باعتبارهم "زُهّادًا صامتين" أو "رموزًا هامشية"، بينما هم في الحقيقة كانوا قادة مشروع مقاومة وصوت الإصلاح النبوي الأصيل.
رابعًا: تقديس الدولة بدلًا من محاسبتها:
أخطر ما بعد كربلاء، هو انتقال الأمة من وظيفة "الأمة الناقدة" إلى حالة "الأمة المقدّسة للدولة". فقد قَتلت الدولة حفيد النبي(ص)، واستباحت المدينة في واقعة الحرة، وقصفت الكعبة في حصار ابن الزبير، ومع ذلك لم تُسقط شرعيتها.
صمت الناس. ثم برّر الفقهاء. ثم تحوّل الخوف إلى ثقافة، والثقافة إلى عقيدة.
وهكذا، ساد منطق يقول: "الدولة على حق حتى في باطلها، والمواطن مذنب حتى في سكوته".
ونشأت أجيال ترى في المعارضة خطرًا، وفي الطغيان نجاة، وتؤمن أن النهي عن المنكر السياسي يهدّد الاستقرار، ولو كان الاستقرار على جثة الحسين!
ختامًا: كربلاء ليست حادثة… بل أصل التحوّل:
إن كربلاء ليست مجرّد معركة مأساوية في التاريخ، بل هي جذر الانحراف الذي شق طريقه إلى بنية الدولة، والعقل، والفقه، والضمير الجمعي. هناك، لم يُقتل رجل فقط، بل كُبّلت الأمة:
قُتلت القدرة على الاعتراض.
وسُبيت الحرية حتى بات الناس عبيدا للسلطة.
وأُحرقت الشرعية , حيث تحولت الدولة من دينية الى سياسية صرفة.
وكلمة اخيرة اوجهها الى كل اصحاب الفكر وبشكل صريح: "نحن الان امام مسؤولية كبيرة جداً, فما لم نُعد قراءة كربلاء بعمق، لا بوصفها مأساة دينية بل بوصفها لحظة تحوّل سياسي وفكري، فسنظل نعيد إنتاج الاستبداد، ونُصفّق للظالم، ونلوم الحسين كلما صاح أحد: "هيهات منا الذلة".
بقلم الأستاذ في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف آية الله السيد فاضل الموسوي الجابري