
في زمن كثرت فيه الآراء والأفكار والمعتقدات، وتشعبت فيه المناهج والمسالك، وأُلبِس فيه الباطل لَبوس الحق، وقويت فيه الدعاية، وسيطر فيه الإعلام على الناس، وتمكن من التأثير في الكثير منهم بزرع الشك والريب في عقائدهم وخياراتهم، تأتي هذه المعادلة "مَنْ قَوِيَ يَقينُهُ لَمْ يَرْتَبْ" كشعلة مضيئة في هذا الليل الحالك، لتضيء للباحث عن اليقين دروبه، وترشد الضال التائه إلى ما يهديه إلى الحقيقة، وتبعث في النفس القَلِقَة الحائرة الطمأنينة والسكينة، اللتين تنبعان من تعميق اليقين وطرد الريب والشك والوهم والظن.
اليقين: طمأنينة القلب، واستقرار العلم فيه، وصدق الإيمان، واستقراره في القلب، بحيث لا يتطرق إليه شك، واليقين الذي هو أعلى درجات الإدراك، هو في نفسه ثلاثة أنواع: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، ويسمى الموت يقيناً، لأنه لا شَكَّ في وقوعه، قال تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴿الحِجْرُ: 99﴾.
واليقين هو أعلى الغايات التي يسعى الإنسان إليها -ولا يقتصر على الاعتقادات، بل يشمل جميع ما يتبنّاه الإنسان من آراء وخيارات، وما يُطرَح على مسامعه من مواقف وأخبار، وما يُقصَف به كل يوم من أكاذيب وأراجيف، وشكوك وشُبُهات- لا يناله إلا من غاص في الوجود باحثاً عن الثبات في وجه رياح الشك والعواصف الفكرية الوجودية، فاليقين القوي هو نور يضيء دروب الإنسان في ظلمات الشكوك، وهو الأساس المتين الذي تقف عليه النفس بثبات حين تميد الأرض بمن عليها.
أما الريب والارتياب: فهو حركة النفس للشك، وهو منافٍ لليقين، ويكون ريباً في العلم، وريباً في طمأنينة القلب، وأصله من الارتياب، وهو: القلق والاضطراب، يقال: ارتاب الرجل، يرتاب، ارتياباً، أي: قلق واضطربت نفسه، وضده: اليقين والطمأنينة.
المعادلة التي بين أيدينا تربط بين قوة اليقين ونفي الارتياب، مِمّا يفيد أن الريب والشك إنما يعرضان على الإنسان نتيجة فراغ القلب من اليقين، أو بسبب الضَّعف في البناء الإيماني والمعرفي عنده، فالمُرتاب هو من لم يملأ قلبه باليقين، ولم يروِ نهمه إلى المعرفة من منابعها اليقينية، ولم يتبنَّ أفكاره بعد التأمُّل والتفكُّر العميقين، فيصير أسير الاضطراب والقلب، فاقداً المناعة الفكرية والنفسية، منقاداً إلى ما يُلقى عليه من أفكار وآراء متأثراً بها من غير وعي.
أما من قَوِيَ يقينه وامتلأ قلبه يقيناً بعقيدته، وخياراته، ومنهجه، واتسع أُفقه، واتَّقَدَت بصيرته، فإنه لا يضطرب حين تهجم عليه الأفكار الأخرى، ولا يتزلزل حين تعارضه تصورات الآخرين وقناعاتهم، ولا يقلق حين يكسب الباطل جولة، ولا يتوتر حين يصاب بمِحنة، ولا يفقد توازنه حين يُبتلى بانتكاسة، لأنه يرى بنور يقينه، ويقينه يكشف له ما غاب عن سواه من الناس.
اليقين يمنح الإنسان طمأنينة القلب، ويزيل منه الخوف مما يمكن أن تأتيه به الأيام، ويقويه على مواجهة الشدائد والمصاعب، ويثبِّته في مواجهة عواصف القلق والريب، وعواصف الانحراف والضلال، ويمنحه ثقة بنفسه تعينه على اتخاذ القرارات وعدم الالتفات إلى المشوشين والمثبِّطين، ويجعله واضح الرؤية والفهم، آمنا من الالتباسات والشبهات.
ولا تظهر قوة اليقين في لحظات الراحة والسِّلم والرخاء، بل في أيام المِحَن والمصاعب والأزمات، تماماً كما تُعرف المعادن تحت الضغط، ويُختبر الصبر عند المصيبة، فحين تشتد الأزمات، وتعصف المصاعب، وتهجم الشبهات، وتغيب الأجوبة، تظهر قوة اليقين، كجذور شجرةٍ ضاربة في أعماق الأرض، لا تهزّها عواصف ولا تجتثّها رياح.
وكم نحن بحاجة في هذه المرحلة الخطيرة والقاسية إلى اليقين القوي الذي لا ينهار أمام ما يحدث، هذه المرحلة التي تتسارع فيها الأحداث، وتتعدد فيها الأزمات، وينزاح فيها الناس عن مواقفهم وثوابتهم، وينقلبون فيها على تاريخهم، وتضيع البوصلة عند كثير منهم، في هذه المرحلة يصبح اليقين حاجة، وتقويته ضرورة الضرورات، وإزالة الريب والشك أوجب الواجبات.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي