ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّة...

مَنِ اشْتاقَ سَلا

23:08 - December 13, 2025
رمز الخبر: 3502802
بيروت ـ إکنا: إنّ قول الإمام علي (ع) "مَنِ اشتاقَ سَلا" یعدّ منهجاً تربوياً عميقاً، يُحوِّل الشوق إلى طاقةٍ دافعة، وقوّة تغيير، تفكّ قيود الإنسان، وتقطع علائقه بالشهوات والأهواء، ليتسامى في غاياته وأهدافه.

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنِ اشْتاقَ سَلا".
 
حين يشتاق الإنسان إلى شيءٍ اشتياقاً صادقاً، ويستولي ذلك الشوق على قلبه ووعيه، فيتجه إليه بكليته: فكراً وإرادةً، لا يبقى في داخله متّسعٌ لما سواه، فتتراجع سائر الانشغالات إلى الهامش، ويضعف أثر ما كان يستحوذ عليه من قبل؛ إذ إنّ القلب بطبيعته لا يتّسع لأكثر من تعلّقٍ غالب، قال تعالى: مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِه ﴿الأحزاب:4﴾.

ومع هذا التوجّه الكلّي، تتبدّل معايير الإنسان في الاختيار والتقييم؛ فما كان مهماً يصبح عارضاً، لأنّ ما يملأ القلب بحقٍّ يُغنيه عمّا عداه، ويُعيد ترتيب علاقته بالأشياء والغايات وفق بوصلةٍ واحدةٍ واضحة. وهكذا يصبح التعلّق الصادق توحيداً داخلياً يجمع شتات النفس، ويمنحها استقامة الاتجاه، فلا يتوزّع الإنسان بين رغباتٍ متزاحمة، بل يمضي في مساره وقد خفّ عنه ثقل التشتّت، واستقام له القصد.
 
تلك هي الحقيقة التي يكشف عنها الإمام أمير المؤمنين (ع)، ومفتاح فهمها يتوقّف على إدراك معنى كلمة "سَلا" فهي تعني نسيان الشيء، وتركه، والإعراض عنه، وزوال التعلّق به، وإن كان محبوباً.
 
أمّا الشوق، فهو حالة من الاشتياق العاطفي الحادّ نحو شخصٍ أو مكانٍ أو شيءٍ غائب، وهو مزيج من مشاعر الحبّ والحنين والألم والافتقاد، ويُولِّد طاقةً نفسيةً هائلة داخل الإنسان.
 
ويرى علماء النفس أنّ "السَّلو" ليس إنكاراً للحبّ ولا نسياناً تاماً، بل آلية تكيّفٍ نفسيةٍ صحيّة؛ فالنفس البشرية لا تستطيع تحمّل حالة التوتّر والانفعال العالي الناتج عن الشوق الدائم بصورةٍ مستمرة، لأنّ ذلك يؤدّي إلى الإرهاق النفسي، والقلق، والاكتئاب، وتعطّل مسار الحياة الطبيعي. لذلك يبدأ العقل الباطن والنفس، بشكلٍ تلقائي، في إعادة هيكلة المشاعر، فيتحوّل الشوق الحارق من حالةٍ سلبيةٍ مُعطِّلة إلى حالةٍ إيجابيةٍ دافعة، أو على الأقل إلى ذكرى دافئة لا تُؤلم. وهذا هو «السَّلو»: ليس موتاً للمشاعر، بل نضجٌ لها؛ وليس جفافاً عاطفياً، بل تحوّلاً في الميول. فعندما يتوجّه القلب نحو غايةٍ أسمى وأعلى، تتصاغر الأشياء الأخرى، ويخبو بريقها.
 
وإذا عدنا إلى قول الإمام أمير المؤمنين (ع): "مَنِ اشتاقَ سَلا"، وجدنا أنّ الإمام يوجّهنا إلى قانونٍ يحكم علاقة الإنسان بالأشياء، وهو أنّ الإنسان إذا اشتاق إلى أمرٍ نسي سواه، وانقطع تعلّقه بغيره، حتى ينفصل عنه انفصالاً تاماً.
 
وهذا القانون يحكم جميع علاقات الإنسان وكلّ ما يتعلّق به قلبه؛ نراه جليّاً في علاقتنا بأحبّتنا من الأبناء، والوالدين، والأزواج، والإخوة، والأصدقاء. فهؤلاء جميعاً ليس من السهل على المرء أن يتركهم أو يتخلّى عنهم، غير أنّ من يتطلّع إلى غاياتٍ سامية قد يسلو عنهم جميعاً في سبيل بلوغ تلك الغايات. والشهداء مثالٌ جليّ على ذلك؛ إذ نراهم يتركون كلّ شيءٍ خلفهم، ويمضون إلى ساحات الشرف، يُرخصون أرواحهم لتتحقّق لهم الغايات السامية التي ينشدونها.
 
وكذلك من يتوجّه بكليّته إلى الله تعالى، راغباً في القرب منه والزلفى لديه، فإنّه يسلو عمّا سواه، ويقطع علائقه بالدنيا وما فيها. وهذا ما نلحظه في مناجاة المريدين للإمام زين العابدين (ع)، حيث يقول: "فَقَدِ انْقَطَعَتْ إِلَيْكَ هِمَّتي، وَانْصَرَفَتْ نَحْوَكَ رَغْبَتي، فَاَنْتَ لا غَيْرُكَ مُرادي، وَلَكَ لا لِسِواكَ سَهَري وَسُهادي، وَلِقاؤُكَ قُرَّةُ عَيْني، وَوَصْلُكَ مُنى نَفْسي، وَاِلَيْكَ شَوْقي، وَفي مَحَبَّتِكَ وَلَهي، وَاِلى هَواكَ صَبابَتي، وَرِضاكَ بُغْيَتي، وَرُؤْيَتَكَ حاجَتي وَجِوارُكَ طَلَبي، وَقُرْبُكَ غايَةُ سُؤْلي، وَفي مُناجاتِكَ رَوْحي وَراحَتي، وَعِنْدَكَ دَواءُ عِلَّتي وَشِفاءُ غُلَّتي، وَبَرْدُ لَوْعَتي، وَكَشْفُ كُرْبَتي"
 
وبهذه النظرة، يصبح قول الإمام علي (ع): "مَنِ اشتاقَ سَلا" منهجاً تربوياً عميقاً، يُحوِّل الشوق إلى طاقةٍ دافعة، وقوّة تغيير، تفكّ قيود الإنسان، وتقطع علائقه بالشهوات والأهواء، ليتسامى في غاياته وأهدافه.
 
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي
captcha