
معادلة أخرى ينبهنا إليها الإمام أمير المؤمنين (ع)، تقوم على الربط بين تعدي الحق، وتجاوز الحدود، سواء كان ذلك مع النفس أو مع الغير، وبين قلة الخيارات وضيق المخارج، رغم أن الذي يفعل ذلك يظن أنه بتعديه الحق وتجاوزه يوجد لنفسه مجالات أوسع، لكنه يكتشف لاحقاً أن ذلك المجال الرحيب الفسيح صار بمثابة زنزانة تحبسه، وأغلال تقيِّده، في حين أن التزام الحق وعدم تعديه قد يبدو للمرء مُكلفاً، أو قيداً يقيِّده، إلا أنه بالنظر إلى النتائج التي تترتب عليه أكثر سعة، وأكثر راحة للنفس والضمير، وأكثر استقراراً، وأبعد أثراً.
إن الباطل مهما أوتي من قوة يبقى باطلاً، والباطل من شأنه الذهاب والزهوق والبُطلان وعدم الدوام، فعندما يتعدّى الشخص الحق قد يكسب شيئاً لكنه يدخل في مسار من الباطل إلى أن ينتهي إلى العواقب القاتلة، إن الذي يربح أمراً بسبب الكذب، أو يحقق هدفاً بسبب الخيانة، لا شك أن ذلك سيقوده حتماً إلى مزيد من الكذب والخيانة، وكلاهما خطير على دنياه وآخرته، وإن الذي يحقق هدفاً بالظلم، لا شك أنه سيظلم مرة ثانية وثالثة ورابعة حتى يصير الظلم مَلَكة في نفسه، فيظلم نفسه، والذي يحقق أهدافه بالغِشِ أو التملُّق والتزلُّف، أو المكر والخداع، ينتهي به الحال إلى الافتضاح بين يدي الناس، فينفرون منه، ويكرهون التعامل معه.
وهذا بالضبط ما يتجلّى اليوم فيما يمارسه الطاغوت، طاغوت العالم وشيطانه الأكبر، الذي يتجاوز كل الأعراف والتقاليد والاتفاقيات والقيم في تعامله مع دول العالم ورؤسائها، يبتز هذا الحاكم، ويهزأ من ذاك، ويعامل الجميع كما يعامل السيِّد عبيده، صحيح أنه يكسب بعض الشيء، لكن العالم كله يضج منه، والعالم كله ينفر منه، والعالم كله آخذ في التحالف ضده وضد ما يمثل من جبروت وعنجهية واستكبار وغطرسة.
إن الذي يقف عند حقوق الحق لا يتعداها ولا يتجاوزها يحفظ ديمومته وديمومة ما لديه وما يحرص على بقائه، ويعيش الانسجام بينه وبين ضميره، فيكون مطمئناً أبداً، بينما نجد الذي يتجاوز ويظلم يقضي حياته في القلق والخوف والتوتر.
هذا الكيان الغاصب القاتل الذي قام على الظلم والغصب لم يعش ساكنوه يوماً حالاً من الاستقرار والأمان، ولن يعيشوا ذلك اليوم، وها هم اليوم وداعموهم يمعنون في القتل، يقتلون للقتل وحسب، يرتكبون من الجرائم ما لم ترتكبه قوة غاشمة في التاريخ الإنساني، يفعلون ذلك على مرأى ومسمع العالم كله، ولكنهم لا يفعلون من قوة واقتدار، بل من ضعف، وإحساس عميق بالخطر الوجودي، يتوهَّمون أنه بما يفعلون يُطيلون عمر كيانهم الهَشِّ الضعيف، لكن ظلمهم نفسه سيقصِّر من عمره، ويسِّرع من فنائه، والعالم اليوم أصبح أكثر وعياً بهم، وأكثر استنكاراً لجرائمهم، وصار هذا الكيان منبوذاً لدى الكثير الكثير من شعوب العالم.
إن الطغاة والمجرمين والقَتَلة الذين تجاوزوا كل الحدود، وما زالوا يرتكبون الفظائع، قد يحسبون أنهم أجادوا التخطيط ويجيدون التنفيذ، وأنهم يحققون ما لم يتحقق لهم مدى قرون من الزمن، لكن ذلك سيأتي على كل كيانهم، ولو كان لديهم القليل من الحكمة لاجتنبوا ذلك كله، إن ظلمهم وطغيانهم يُضيِّق عليهم الطريق يوماً بعد آخر وسيسقطون في هُوَّة لا قرار لها.
وهذا مثال حَيٌّ على معادلة: "مَنْ تَعَدَّى الْحَقَّ ضاقَ مَذْهَبُهُ" أي أن من يتجاوز الحق، ويعتدي ويظلم، يحاصره ظلمه، ويقتله بطشه، ولا يمكنه الفرار من ذلك، لأنها سُنَّة الله التي لا تبديل لها.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي