ويسأل العلماء في كثير من بحوثهم التفسيرية عن سر اهتمام القرآن الكريم بالفقراء والمساكين، وقد تقدم الكلام منا في ما أعدّه الله تعالى من عذاب لمن تهاون في أمر الفقراء والمساكين، ويكفينا في هذا المقام ما بيّنه الإمام علي(ع) في عهد الأشتر في ما ينبغي أن يقوم به الحاكم المسلم اتجاه هؤلاء، فقال: "ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمني، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً".
فالسؤال عن حقيقة ما يرمي إليه القرآن الكريم من وراء ذلك، هو التنبّه إلى أن المجتمع الإنساني، ولا نقول المجتمع الإسلامي وحسب، وإنما كل مجتمع يبقى أسير الضعف والمسكنة ما لم يأخذ بالحسبان حقيقة ما ينتظم به الاجتماع الإنساني، لجهة ما ينبغي أن يكون عليه من تكافل، ورعاية للحقوق، وتحقيق للعدالة، فالفقراء والمساكين ليسوا قلةً في المجتمع، وعدم الاهتمام بهم يورث المجتمعات الإنسانية ذلًا ومسكنةً، ويجعلها عرضةً لكل فساد، تمامًا كما كان حال كل المجتمعات السابقة التي تعرّضت لكل مهانة بسبب عدم قيامها بحقوق هؤلاء، الذين يشكلون عماد المجتمع، إذ منهم يكون العمال والجند، وأصحاب الحرف، ولهذا نجد الإمام علي(ع) يضيف إليهم سائر المحتاجين ممن لا قدرة لهم على رفع الحاجة إلا بمعونة الحكومة.
إقرأ أيضاً:
فالذين اتبعوا الأنبياء وقادوا عملية التغيير المجتمعي كانوا من هؤلاء، ولم يكونوا من المترفين، وقد سجّل القرآن هذا الموقف حين عاتب المترفون النبي محمد(ص) بأنه جعل الفقراء وبادىَ الرأىِ من أتباعه وأنصاره! فردّ عليهم القرآن بقوله تعالى:"وما أنا بطارد الذين آمنوا..."،فالموقف القرآني هو هذا، أن الفقراء والمساكين وغيرهم من أهل الحاجة، هم عمدة قيامة المجتمع، ويكفي أن القرآن قد جعل لهم حقوقًا مفروضة، فقال تعالى: "إنما الصدقات للفقراء والمساكين،....".لقد بيّنا سابقًا كيف أن القرآن في أكثر من سورة قرآنية، يتوعّد الذين لا يحضّون على طعام المسكين، جاعلًا من ذلك سببًا وعلةً للعذاب في جهنم، وجعله سببًا للتكذيب بالدين إلى غير ذلك مما توعّد عليه أهل الترف والبخل وقسوة القلوب!
إن الذين لا يكترثون لهؤلاء في مسيرة التغيير والبناء الاجتماعي، لا يمكنهم بعث الطمأنينة في العباد والبلاد، وهم أعجز من أن يحفظوا سيادة لبلادهم في مواجهة أعدائهم، ألا نلاحظ حقيقة ما يمثله هؤلاء من مقاومة وشرف وكرامة في التصدي للعدوان الصهيوني؟ فالفقراء والمساكين هم الدليل الساطع على حقيقة الإيمان بالله تعالى، فالقرآن الكريم في وعيده لأهل الترف ممن يؤتَون صحائفهم بشمائلهم، يقول:"إنه كان لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحضّ على طعام المسكين"، فلم يقل:إنه لا يؤمن بالنبوة، أو بالكتاب، أو بغير ذلك مما هو معلوم لدينا من أصول الدين، بل قال :لا يحضّ على طعام المسكين، وهذا ما يؤكد لنا ضرورةحفظ هؤلاء والقيام برعايتهم، لأجل استقرار المجتمع، وحفظه من كل سوء قد يلحق به.
وهنا السؤال، فهل نحن نقوم بواجبنا اتجاه هؤلاء الذين يجاهدون في سبيل الله، أم أنهم مطرودون من كل عناية ورعاية؟ فهل اقتحمنا كل عقبة لحفظ الفقراء والمساكين والأيتام، وسائر المحتاجين، أم أننا جلعنا الأموال نصيبًا لأهل الحظوة ممن استبدوا بالمؤسسات، واغتنوا بأموال الفقراء والمساكين والمحتاجين؟
إن تجربتنا في أوطاننا ترشدنا إلى أن المترفين قد استأثروا بكل الخيرات، وسرقوا أموال الفقراء والمساكين، وجعلوهم عاجزين عن سد حاجاتهم الضرورية، كالتعليم والطبابة والدواء!
فالقرآن الكريم يبيّن في كثير من مواقفه، أن التكافل الاجتماعي، هو شرط قيامة المجتمع الإنساني الصالح،فإذا لم يكن الناس عند هذا الوعي بالحقوق لمن يدافع عن الأوطان، ويقوم بمهام الدفاع، ويحفظ الأمن والاستقرار، فإن شيئًا من ذلك لن يتحقق، وقد بان لكل ذي عينين، أن الفقراء والمساكين هم الذين أبقوا على حرمة العباد والبلاد في بلاد المسلمين، وخصوصًا أولئك الذين تجندوا للمقاومة والدفاع!
فلينظر أهل المسؤولية والحكم إلى هؤلاء دون تمييز مجتمعي، أو طائفي، أو حزبي، لسد حاجات الناس، وليجعلوا من اهتمامهم بهم ميزانًا لتدينهم وإيمانهم بالله تعالى، لأن مقوّم كل عبادة، وشرف كل مسؤولية، هو هذا الاهتمام بالفقراء والمساكين، فإذا لم تعيدوا النظر بسياساتكم المريضة، واهتماماتكم المتحيّزة؛ فلن تفلحوا بالفوز والرضوان.
فالفقراء والمساكين، ليسوا فقط مَن تعرفونهم في الحزب، أو في الطائفة، بل هناك الكثيرون منهم يلعنون في الليل والنهار مَن تسيّد عليهم، وأكل أموالهم بدارًا، قبل أن ينالوا من حقوقهم شيئًا! إن صحة إيمانكم تبقى مرهونةً بأعمالكم، والتي منها القيام بحق على شؤون الفقراء والمساكين والأيتام وسائر المحتاجين، ممن فرض الله لهم الحقوق، وجعلهم أعزاء في ما خصّهم به من مسؤوليات اجتماعيةوإنسانية ودفاعية.
ويبقى على المسؤولين أن يتحروا عن شؤون هؤلاء في أوقات الحرب والسلم، وإلا كانوا أهلًا لسوط عذاب، كما قال تعالى في سورة الفجر: "كلا بل لا تكرمون اليتيم، ولا تحاضُّون على طعام المسكين، وتأكلون التراث أكلًا لمًَّا، وتحبُّون المال حبًا جمًَّا".
بقلم أ.د فرح موسى:رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان