ولقد كتبت غزة فلسطين فصول الذكر لأمة العرب والمسلمين، وهي لا تزال تكتب بالدم والجوع والمعاناة ما لا يستطيع عليه أحد من هذه الأمة، وقد تأملنا وتدبّرنا في كتاب الله تعالى لنجد أوصافًا تليق بأعراب الأمة الذين تخلوا عن فلسطين، وتركوا غزة تموت جوعًا وعطشًا وقتلًا وتدميرًا، فلم نجد من الأوصاف إلا سلاسل العذاب لأهل الشمال، كما قال تعالى:" وأما مَن أُوتيَ كتابه بشماله، فيقول يا ليتني لم أُوتَ كتابيه...خذوه فغلُّوه، ثم الجحيم صلُّوهُ، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا فاسلكوه، إنه كان لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحضُّ على طعام المسكين، فليس له اليوم ها هنا حميم".
فالآيات تتحدث عن أوصاف قوم لم يؤمنوا بالله العظيم، ولم يحضُّوا على إطعام المساكين، فجُعلت لهم سلسلة من العذاب تليق بأعمالهم، والملاحظ أن الآيات تعطف عدم الحض على طعام المسكين على عدم الإيمان، وجعلت عدم الحضّ قرينًا للكفر، وقد قال أهل التفسير:" إن الله تعالى ذكر الحضُّ دون الفعل، ليُعلَم أن تارك الحض بهذه المنزلة، فكيف بمن يترك الفعل؟، وفي الآيات إشارةٌ إلى أن شر الخصال بعد الكفر:البخل، وقسوة القلب..."، وغير خفي على متدبّر بصير ما تنطوي عليه الآيات من دلالات تتعلق بحقيقة ما ينبغي أن يكون عليه الانتظام الاجتماعي للبشر لجهة التحقق بمواصفات الإيمان والإحسان، لأن مدار السعادة ومادَّتها أمران، وهما:الإخلاص لله تعالى، الذي أصله الإيمان بالله، والإحسان إلى الخلق بوجوه الإحسان التي من أعظمها دفع ضرورة المحتاجين بإطعامهم، وهكذا، فإن ما نحتاج للتوقف عنده، هو مدى وحقيقة ما يعقله أعراب الأمة من معاني الإيمان والإحسان إلى الناس المعذبين في غزة فلسطين!
إقرأ أيضاً:
فهل ما يؤدونه من وظائف، ويقومون به من أعمال يجعلهم في منجاة من سلاسل العذاب التي أُعدت لقساة القلوب؟ فماذا هم قائلون غدًا لربهم حين يسألهم عن القتل والجوع في غزة؟ فإذا كان الانتظام الاجتماعي لا يستقر إلا بالإيمان والحض على طعام المساكين في أوقات السكون والدّعة، فما بالنا في أيام الحرب والحصار والإبادة الجماعية في فلسطين!؟
فما هو جواب أعراب الأمة يوم يقال لهم:"وقفوهم إنهم مسؤولون". ما لكم لا تناصرون"؟، نعم، إنها سلسلة من العذاب، طرفها الأول في الدنيا لمن ترك أهله يموتون جوعًا، ويقتلون تحت كل حجر، ومدر، وشجر. وطرفها الآخر حيث لا يكون لهم شفيع ولا حميم!فأهل غزة فلسطين يستغيثون بأهلهم ممن اعتقدوا فيهم الإيمان ووجوه البر والإحسان؛فإذا بهم على شر الاعتقاد، وأقبح الرذائل في قسوة القلوب، وقد بان لكل العرب والمسلمين مَن هم أرق قلوبًا، وألين أفئدةً، الذين انتصروا لفلسطين بكل طاقة ويقين.
فإذا كان الأعراب يتشافهون بالنصرة، ويتقارضون الثناء على أمل أن ينتصروا لبعضهم البعض، فهيهات، ثم هيهات، أن يكون لهم ذلك من أنفسهم، وقد تتعرض بلدان عربية أخرى للعدوان الصهيوني، ولن يكون لها أكثر من نصرة الإدانة، وزيارات المجاملة، لأن أحدًا من هؤلاء لا يملك شروط وإمكانيات النصرة والغوث!
لقد فضحت غزة فلسطين أعراب الأمة في الإيمان والإحسان معًا؛فلم يبق أمام هؤلاء الأعراب إلا انتظار العذاب، كما قال تعالى: "ولنُذيقنّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون". إنها الحقيقة المرة والصادمة، أن تترك غزة ولا يجتمع الأعراب لنصرتها في وقت يزعم العدو أن إسرائيل الكبرى لم تعد حلمًا، وإنما أصبحت واقعًا يترجم بالعدوانية على كل البلاد العربية والإسلامية، وتعقد القمم، وتشحذ الهمم للإستعانة بحلفاء إسرائيل لردعها عن العدوان كحال أولئك الرؤساء الذين صرحوا بأنهم عازمون على مواجهة العدو بالضغط الدولي!
إنها أعاجيب أخر الزمن، أن يتفلّت الأعراب من عوامل قوتهم، ليستعينوا بالنار على الرمضاء!ويبقى السؤال، ماذا أنتم فاعلون والنار والعدوان يحيط بكم من كل اتجاه، ويعدكم بعام جديد من الحرب!؟ فإذا لم تنتصروا اليوم لغزة، فإن سلاسل العذاب ستحيط بكم، وسترون كيف أن غزة ودماء أبنائها، ستنتصر، وسيهزم الجمع، ويولون الدبر.
إنه وعد الله تعالى لعباده المؤمنين أن ينتصروا على كل جبار عنيد. فلا بأس أيها الأعراب أن تعيدوا النظر في ما أنتم عليه من البلاء والهوان، فتنتصرون لغزة، وتفتحون أبواب الطعام والشراب والدواء لأهلها، وتعودوا إلى قراءة ما تيّسر من القرآن لعلكم بذلك تستشعرون معنى العزة .
وقد سألكم ربكم أتبتغون عند أعدائكم العزة: فإن العزة لله جميعًا".فاخلعوا أيها الأعراب نصف سلاسل العذاب بالإيمان، والنصف الآخر بإطعام المساكين في يوم حاجتهم إليكم، وإلا فإنكم على موعد مع العذاب الأدنى والأكبر كما وعدكم ربكم، وما هو بظلام للعبيد، والسلام.
بقلم أ.د فرح موسى: رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان