
فالقرآن الكريم يبيّن حقيقة الموقف مما أورده على لسان الأنبياء والرسل، الذين بلّغوا رسالات ربهم، بدءًا من مسألة العقيدة وانتهاءً بالشؤون العامة للمجتمع، ولهذا نجد
الخطاب النبوي في كثير من الآيات يبدأ من العقيدة، وذلك إنما جاء على قاعدة: إنه إذا صلحت العقيدة، وسلم الناس من الشرك والوثنية وفساد العقيدة، فإنه يكون ممكناً إحداث التغيير، وتحقيق الهداية على النحو الذي يمنع من الفساد، ويؤدي إلى الإصلاح.
فالإعلام القرآني ليس مجرد خبر أو معلومة خاصة بشأن من الشؤون، وإنما هو رسالة يقوم بها الإعلامي، أو المبلّغ، ليحدث تغييراً، ويظهر حقاً، ويدفع باطلاً، وقد اعتاد الإعلاميون، وكذلك المبلّغون، على مواكبة الأحداث وفق ما تقتضيه المواقف السياسية بعيداً عن العقيدة والموقف الحق، تماماً كما كان يجري في زمن السلاطين، وحكام الجور، والأنظمة الثيوقراطية التي كانت تحكم باسم الدين!، فهؤلاء جميعًا، كانوا يحكمون باسم الدين، ويصنعون لأنفسهم إعلامًا خاصًا يعبرون به عن مواقفهم دون اعتبار لقيم، أو لمبادىء، أو لحقائق!
إقرأ أيضاً:
فالحقيقة هي ما يراه الحاكم، وليس الله ورسله!، وليس من عبث، أو من مصادفة موت الإعلام الديني كما عبر عنه الأنبياء والرسل! واختصاراً للموقف هنا، يمكن تبيان الموقف النبوي، الرسالي، الذي يؤكد على أن سلامة الاعتقاد، هي الأساس، ولها المدخلية العظمى في نهضة الاجتماع الإنساني، وفي بناء الحضارة أيضاً، وهنا يظهّر لنا القرآن حقيقة الموقف الذي يجمع بين الاعتقاد السليم وبين ما ينبغي أن يكون عليه الناس في تعبيراتهم الدينية والسياسية والإعلامية.
ويقول القرآن الكريم على لسان كثير من الأنبياء والرسل: "وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(سورة الأعراف / الآية 85).
فالآية تبدأ بالهداية إلى صحة الاعتقاد، ثم تنتقل إلى النهي عن الفساد، والإصلاح، وهكذا، نجد أن هذا الخطاب يتكّرر في الخطاب النبوي إلى كل الأقوام التي بعث الأنبياء للهداية والرعاية فيها، وهو خطاب قرآني متميّز في الربط بين العقيدة وشؤون المجتمع، سواء في الاقتصاد، أو في السياسة، أو في غيرهما مما لا قوام للمجتمع إلا به.
أما أن تكون الوظيفة الإعلامية، أو التبليغية مجرد مماحكات في السياسة، أو ترديدات لأخبار متحلّلة من كل قيد ورؤية، فهذا مما اعتاده الطواغيت في التعبير عن مواقفهم لتلبيس الأمور على الناس! فالإعلام الإسلامي كما بيّنه القرآن لا يتجاوز سلامة العقيدة بحال، بل هو يربط بإحكام بين الرؤية الدينية السليمة والموقف المتعلق بشؤون الناس، وإلا استحال الموقف مجددًا إلى الصنمية والوثنية، كما هو حال الكثير من المبلغين والإعلاميين في عالمنا المعاصر!
فهؤلاء تحوّل الإعلام معهم، ليكون مجرد أداة سلطوية لخدمة أطروحات جاهلية، سواء في النظرة إلى الكون والخلق، أو في النظرة للإنسان! إذ لا سؤال في إعلامنا المعاصر عن الوعي العقدي الذي ينتمي إليه كل أهل الإيمان، فكل شيء مرهون لصنميات جديدة في الدين والسياسة!
فالأنبياء جميعًا كانوا مبلّغين، وقائمين بالحق، فلم يجعلوا من الذكاء خداعًا، ولا من السكوت عن الحق حكمةً، وفنًا من فنون السياسة! فإذا كان الأنبياء والرسل يشكّلون قدوةً للناس، فما معنى أن يتحوّل الإعلام، ليكون وظيفةّ لكل جاهل، ورهينةً لكل جاحد ومعاند!
ويقول الإمام علي(ع): "علّمنا تبليغ الرسالات، وإتمام العدات، وتمام الكلمات...". وهذا الكلام بذاته كاشفٌ عن معنى أن يكون الإعلام رسالةً إلهيةً يؤديها العلماء والأتقياء، وكل من له باع وقدرة على استنهاض الروح المعنوية والعقدِية في التعبير عن قضايا الناس وشؤونهم الحياتية.
فالإعلام له قيمة التبليغ الرسالي، وعلى مَن يؤديه التحقق من قيمة نفسه، لكي لا يكون إمعةً لهذا الطاغوت، أو ذاك، ممن أخذوا بالإعلام مجدداً إلى الصنمية والوثنية بكل تجلياتها الحديثة! كما أنه مطلوب من المبلّغ، أو الإعلامي، استيعاب حقيقة الموقف الرسالي، الذي يقوم به، فهل هو مجرد موظف، أو مسؤول؟، وما هي درجة تعقّله لما يقوم به من دور؟
فكثيرون هم الذين يجحدون حق هذه الوظيفه في ما يقومون به من مسؤوليات! ولا يبالون ما إذا كانوا على وعي بالهدف أم لا؟ بل نجد أكثرهم يحرّف الحقائق، ويستعدي الدين طمعًا بالسلطة والمال! إن أطروحة القرآن الكريم، أعطت الأنبياء والأولياء شرف أن يكونوا مبلغين للهداية والرعاية، فلا تجعلوا من الإعلام والتبليغ وظيفةً للحمقى والجهلة في عالم بات الناس فيه بأمس الحاجة إلى كلمة حق في وجه سلاطين الجور وتجار الدين والسياسة!
بقلم أ. د. فرح موسى؛ رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان