
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ شَكَرَ إِلَيْكَ غَيْرَكَ فَقَدْ سَأَلَكَ".
من بدائع كلام الإمام أمير المؤمنين (ع)، وكل كلامه بديع بليغ، وكل كلامه حكيم هادف، فباب مدينة العلم لا يكون منه غير ذلك، هي جملة قصيرة لكنها تحمل في طياتها معنى عميقاً في أدب التعامل مع الناس.
إذا جاءك شخص يشكر شخصاً في حضورك، يثني على فعاله، ويحمد صفاته، ويذكر نُبل أخلاقه، فاعلم أنه ينتظر منك مثل الذي كان منه، وأن تحذو حِذوَه في الإحسان والنَّبل، وفي الكرم والجود، وفي الصفات الرفيعة الراقية، إن شكره لغيرك سؤال منك بالتلميح لا بالتصريح، وبالكناية لا بالمباشرة، وهذا أسلوب راقٍ من أساليب الطلب، أسلوب يمارسه معظمنا عندما يريد أن يتحقق له أو لسواه أمر من الأمور، ألسنا نمتدح تلميذاً مِجداً أمام أبنائنا لنثير همَّتهم على الدرس والمذاكرة والنجاح، أو نمتدح أخلاق رجل أمام رجل آخر نريد أن يكون مثله، أو نثني على نجاحه أمامه لنثير فيه الرغبة في النجاح؟
الكلام المباشر ليس دائماً هو الأسلوب الأجدى والأنفع، بل إن التلميح غالباً ما يكون أهم من التصريح أمام النبيه الحاذق، فالنفوس تتفاعل بالمقارنة كثيراً، لأن الإنسان مفطور على الرغبة في أن يكون هو الأفضل من غيره، فالمدح يثير في السامع الرغبة في أن ينال مثل ذلك الثناء.
هذا الأسلوب استعمله القرآن الكريم كثيراً، فتارة نراه يمدح المؤمنين الصالحين، ليثير الرغبة في المتلقي أن يكون مؤمناً صالحاً مثلهم، ويمدح الصادقين ليكون القارئ للقرآن مثلهم في الصدق، ويمدح المُعطين المُتصدِّقين ليحثّهم على العطاء والصدقة، وتارة أخرى يخاطب رسول الله (ص) ولكنه يعني عموم الناس، كما قال الإمام الصادق (ع): "إِنَّ القُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ: إِيَّاكِ أُعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ" فقد يوجَّه الخطاب إلى رسول الله (ص) أو طائفة من الناس، لكن المراد هو الأعمّ من ذلك، هو المخاطَب وكل من يأتي بعده، وكل من تنطبق عليه الأوصا،. فالخطاب القرآني حين يقول مثلاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فهو لا ينحصر بالمؤمنين في زمن النبي (ص)، بل هو نداء خالد لكل مؤمن إلى قيام الساعة، وإذا قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ فالمعنى لا يقتصر على من حضروا حين نزلت النداء، بل يشمل كل الناس حيثما وُجدوا.
وعلى كل حال، فإن قول الإمام أمير المؤمنين (ع): "مَنْ شَكَرَ إِلَيْكَ غَيْرَكَ فَقَدْ سَأَلَكَ" يهدف إلى بناء وعي اجتماعي راقٍ، وهو أن نفهم ما وراء العبارات، وأن نلتقط حاجات الناس من خلال تلميحاتهم، لا أن ننتظر منهم التصريح دائماً، فكثير من الناس يتعفّفون عن السؤال المباشر، ويجدون في الشكر لغيرنا أسلوباً راقياً للطلب، فإذا التقطنا الإشارة وأعطينا، نكون قد جمعنا بين إدراك الحاجة وصون كرامة السائل.
فالمروءة والكرم والاستجابة الإيجابية ليست أن تعطي فقط من يطلب منك بالطلب الصريح، بل أن تفهم من يلمّح، وأن تلبّي من لا يجرؤ على السؤال، وهنا يتحوّل الإنسان إلى قارئٍ للنفوس، فيرتقي بالعطاء إلى مستوى الرحمة والكرامة وحفظ ماء الوجه.
فمن المهمِّ جداً أن نُجيد التقاط إشارات الناس، وأن نفهم مغزى تلميحاتهم، وأن ندرِّب أنفسنا على الإصغاء الواعي، ونستجيب برفق فنبادر إلى الفعل الإيجابي مع الآخرين من غير أن نضطرَّه إلى التصريح حفظاً لكرامته.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي