
لقد بالغَ الإسلامُ في الدَّعوة إلى التَّفكُّر في خَلْقِ الله تعالى، أي في أفعاله وتجَلِّيات صفاته الكريمـة، حتى اعتبرَ التَّفكُّر عبادةً ترقى على كثيرٍ من العبادات، فقد جاء في الحديث عن رسول الله (ص) أنه قال: "فِكرَةُ ساعَةٍ خَيرٌ مِن عِبادَةِ سَنةٍ".
إقرأ أيضاً:
وجاء عن الإمام الرِّضا(ع): "ليسَ العِبادَةُ كثرَةَ الصَّلاةِ والصَّومِ، إنّما العِبادَةُ التَّفكُّرُ في أمرِ اللَّهِ".
وجاء عن الإمام علي أمير المؤمنين (ع): "لا عِبادَةَ كالتَّفكُّرِ في صَنعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ".
والتَّفكُّر هو: التَّأمُّل وإعمال العقل والقلب معاً في الشيء أو الأمر المراد فهمه، وهو حركةٌ ذهنية ينتقل بها الإنسان من معلومٍ إلى مجهول، ومن ظاهرٍ إلى باطن، ومن حاضرٍ إلى غائب، طلباً للوصول إلى الحقائق أو العِبَر. وهو خَصِيصةٌ إنسانية لا يشترك فيها الحيوان، لأنَّها من أعمال العقل، والحيوان لا عقل له. ولا يكون التَّفكُّر إلا فيما يمكن أن تحصل صورته في القلب.
وهذا ما نجده بوضوحٍ في دعوة القرآن الكريم إلى التَّفكُّر في خلق الله في آياتٍ كثيرة، منها قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿190﴾ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴿آل عمران:191﴾.
وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى...﴿الروم:8﴾ .
وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿الرعد: 3﴾.
وغيرها من الآيات التي تدعو بإلحاح إلى التَّفكُّر فيما يُدرَك بالعقل ويُتصوَّر في القلب.
أمّا ما لا يمكن أن تتكوَّن له صورةٌ في القلب فلا مجال للتفكُّر فيه. ولَمّا كان الله سبحانه مُنَزَّهاً عن الصورة والشَّكل، فلا يصحُّ التَّفكُّر في ذاته جلَّ وعلا. ولهذا رُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: "تَفَكَّروا في خَلقِ اللَّهِ، ولا تَفَكَّروا في اللَّهِ فتَهلِكوا".
وقال: "تَفَكَّروا في الخَلقِ ولا تَفَكَّروا في الخالِقِ، فإنَّكُم لا تَقدِرونَ قَدرَهُ".
والمراد بالنهي هو التفكُّر في ذات الله وحقيقته وماهيته، لا التفكُّر في صفاته عزّ وجلّ، لأن صفاته تتجلّى في مخلوقاته وأفعاله. وهذا ما نفهمه من قول الإمام أمير المؤمنين (ع): "مَنْ تَفَكَّرَ في ذاتِ اللّهِ أَلْحَدَ".
فإنَّ من يحاول إدراك حقيقة الذات الإلهية المطلقة بعقله المحدود ينتهي إلى الضلال، لأن العقل لا يُحيط بما لا نهاية له، ولا يمكن للمحدود أن يُدرك كُنْهَ اللامحدود.
إنَّ معرفة حقيقة ذات الله تعالى أمرٌ يعترف العقل بالعجز عنه، ويرى أنّ الخوض فيه يُفضي إلى التشبيه أو الشكّ.
ومن هنا كان الواجب على الإنسان أن يوازن بين رغبة المعرفة وبين اعترافه بحدود قدرته، فيقصر تفكُّره على آثار الله وصفاته، دون الخوض في ذاته سبحانه.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي