ایکنا

IQNA

السؤال القرآنيّ بوصفه أداةً للتربية والإصلاح

13:16 - October 16, 2025
رمز الخبر: 3502034
النجف الأشرف ـ إکنا: يتميّز الخطاب القرآنيّ بقدرته على تحويل السؤال من أداة معرفية إلى وسيلة تربوية تُخاطب الوجدان والعقل معًا، فيثير به الشعور، ويوقظ الغفلة، ويقوّم المسار الفكري والأخلاقي للإنسان.

والسؤال في القرآن الكريم لا يأتي دائمًا لطلب المعلومة، بل كثيرًا ما يأتي لإيقاظ الحسّ الداخليّ وإعادة ترتيب الوعي، فيتحوّل إلى مرآةٍ للنفس قبل أن يكون استفسارًا عن الخارج.

ومن أبلغ الأمثلة على هذا النوع من الأسئلة قوله تعالى:  {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} [الإنسان: 1].

فالسؤال هنا لا يُراد به الجواب، بل هو استحضار لمشهد العدم الذي سبق وجود الإنسان، ليعيد إليه وعيه بضعفه وافتقاره إلى خالقه.

إقرأ أيضاً:


إنه سؤال يستدعي في أعماق النفس معنى العبودية، ويقودها إلى إدراك أصلها ومصيرها. فبهذا اللون من التساؤل يربّي القرآن الإنسان على التواضع أمام الحقيقة الكبرى: أنّ وجوده منحة من الله تعالى فقط فهو الذي افاض عليه الوجود بعد العدم.

وفي موضع آخر، نجد قوله تعالى:  {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26].

سؤالٌ قصير، لكنه يختزل رحلة الإنسان كلّها، إذ يُوجّه الخطاب إلى القلب الغافل ليُعيده إلى رشده، فهو سؤال يُربك النفس في لحظة التيه، ويعيدها إلى صراطها المستقيم. 

إنّ مثل هذه الأسئلة القرآنية تحمل في بنيتها قوة الصدمة التربوية، التي تقطع على الإنسان انغماسه في الغفلة وتُجبره على مراجعة ذاته دون قسرٍ أو إلزامٍ ظاهريّ.

ومن الأسئلة التي تحمل الطابع التربويّ الوجدانيّ أيضًا قوله تعالى المتكرر: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [سورة الرحمن].

فهنا يتحول السؤال إلى إيقاعٍ تربويٍّ متدرّجٍ، يعيد إلى الإنسان إحساسه بالنعم من خلال التكرار الذي يُرسّخ الوعي بالمنة الإلهية. فكلّ نعمة تُذكر تتبعها صيغة سؤالٍ توقظ الحسّ الشاكر، وتذكّر الإنسان بموقعه من الفضل الربّانيّ. ومن ثمّ يمكن القول إنّ السؤال القرآني هنا يمارس وظيفة الذكر، إذ يُعيد للإنسان علاقته الوجدانية بالخالق من خلال خطابٍ تأمليٍّ متجدد.

ولم يكن هذا اللون من التساؤل مقصورًا على الجانب الفرديّ، بل شمل البعد الاجتماعيّ الإصلاحيّ كذلك، كما في قوله تعالى:  {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16].

إنه سؤال يجلجل الضمير الجمعيّ للمؤمنين، ويُوقظ فيهم الإحساس بالتقصير، دون توبيخٍ مباشر أو زجرٍ قاسٍ، بل عبر استفهامٍ يحمل في طيّاته دعوةً ناعمةً إلى العودة. فهو خطاب يربّي الإيمان في الأمة من خلال إثارة المسؤولية الداخلية، ويغرس فيهم مبدأ الإصلاح الذاتيّ الذي هو أساس الإصلاح الاجتماعيّ.

ومن هنا يمكن القول إنّ القرآن قد حوّل السؤال إلى منهجٍ تربويٍّ شامل، يعالج به علل النفس البشرية، ويعيد بناء وعيها وفق منطقٍ يزاوج بين العقل والعاطفة. فالسؤال القرآنيّ لا يستجدي الجواب بقدر ما يحرّك الإدراك، ولا يقدّم المعلومة بقدر ما يصنع الوعي، لأنّه يخاطب الإنسان من الداخل قبل أن يوجّه إليه من الخارج.

إنّ هذا النمط من الأسئلة يُربّي في الإنسان ملكة المراجعة الدائمة، ويجعله في حالة وعيٍ مستمرّ، فلا يطمئنّ إلى ظاهر العمل ولا يركن إلى العادة، بل يعيش في حوارٍ دائمٍ مع نفسه ومع ربه. وبهذا يكون السؤال القرآنيّ مدرسة روحية وأخلاقية تخرّج الإنسان الحرّ المسؤول، لا المقلّد الخانع.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
 
بقلم الأستاذ في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف آية الله السيد فاضل الموسوي الجابري 
captcha