ایکنا

IQNA

العقل الجدلي ومنهجية الحوار في الخطاب القرآني

8:58 - October 17, 2025
رمز الخبر: 3502038
النجف الأشرف ـ إکنا: يمثل الخطاب القرآني نموذجًا فريدًا في التعامل مع العقل البشري، حيث لم يكتفِ بإثارة التساؤل الفردي، بل صاغ آلية جدلية متكاملة تهدف إلى تطوير الفكر، وتنمية القدرة على الحوار، وصقل ملكة النقد البناء.

ويمثل الخطاب القرآني نموذجًا فريدًا في التعامل مع العقل البشري، حيث لم يكتفِ بإثارة التساؤل الفردي، بل صاغ آلية جدلية متكاملة تهدف إلى تطوير الفكر، وتنمية القدرة على الحوار، وصقل ملكة النقد البناء. فالعقل الجدلي في القرآن الکریم ليس مجرد أداة للجدل العقيم، بل وسيلة لتكوين وعي معرفي متين، يربط بين التساؤل والبحث والحوار، بين العقل والروح، وبين الإنسان وربه.

وقد ظهر هذا المنهج بوضوح في أسئلة القرآن الموجهة إلى المشركين وأهل الكتاب، فهي لا تطرح فقط لاستعراض الحقائق، بل لتدريب السامع على المراجعة والتفكير النقدي. من الأمثلة البارزة على ذلك:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء: 85]،

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189]،

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222].


إقرأ أيضاً:


في كلّ حالة، يكون السؤال بمثابة دعوة إلى التأمل العميق، إذ يحث السامع على الانتقال من المعلومة الظاهرية إلى الفهم العقلاني، ومن التلقّي الأعمى إلى استدعاء القدرة على الاستدلال. والقرآن هنا يعلّم أن الحوار القائم على العقل والتساؤل هو السبيل إلى اليقين والمعرفة الصادقة، لا القبول الأعمى للموروث أو الانقياد للأهواء.

ويتضح منهج الحوار القرآني كذلك في تفاعله مع بني إسرائيل والمشركين والرسل السابقين. فالأمر بالاستفسار وطرح الأسئلة عليهم لم يكن مجرد استجواب، بل تدريبًا عمليًا على الاستماع إلى الرأي الآخر، ومواجهة المعارضة بالحجة والمنطق. يقول تعالى:  {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} [البقرة: 211].

إنّ هذا المنهج يشكّل أساسًا للعقل المسلم في تعامله مع الاختلافات الفكرية والاجتماعية، ويعلمه أن قبول الرأي الآخر وإعادة النظر في المواقف ليس ضعفًا، بل قوة عقلية وروحية.

كما أن الشورى القرآنية:  {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] تمثل تجسيدًا عمليًا للعقل الجدلي على المستوى الجماعي، حيث يُدرّب المجتمع على طرح الأسئلة ومناقشة الحلول والتوصل إلى القرار السليم، بما يرسّخ أسس العدالة والتعاون والفهم المتبادل.

ويُشير القرآن كذلك إلى أن العقل الجدلي لا يقتصر على مواجهة الخارج، بل يمتد إلى مواجهة الذات والنفس. فهو يزرع في الإنسان عادة المراجعة الذاتية والتقييم الدائم للأفكار والمواقف، حتى يتحقق التوازن بين المعرفة والوعي، وبين الرأي والحقيقة. ومن هنا، يصبح الحوار الداخلي والخارجي أداة إصلاحية تربوية، تُنقّي الفكر وتحرّر الروح، وتؤسس لبنية معرفية متينة قائمة على العقل والمنطق.

إنّ العقل الجدلي في القرآن إذاً ليس مجرد نشاط فكري، بل منهج حياة، يجمع بين التأمل الذاتي، والحوار الحضاري، والنقد البنّاء، ويؤدي إلى إدراك حقيقة الوجود والعلاقة بين الإنسان وخالقه. وهو بذلك يشكّل صميمًا من صميم الفكر القرآني المنهجي، ويُعدّ قاعدة أساسية لتأسيس المجتمع المسلم الواعي القادر على الحوار والتفكير الحرّ.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

بقلم الاستاذ فی الحوزه العلمیه النجف الاشرف آیه الله السيد فاضل الموسوي الجابري 

captcha