منذ أن خُلق الإنسان وهو في رحلة بحثٍ دائمة عن المعنى والغاية، رحلة تبدأ بالسؤال ولا تكتمل إلا بالفعل. فالقرآن الكريم لا يقدّم الإيمان بوصفه حالةً جامدة، بل مسارًا حيًّا يتّسع بالسؤال، وينضج بالحوار، ويتجسّد بالفعل المسؤول. ومن هنا، يتّضح أن وظيفة العقل في المنظور القرآني لا تقف عند حدود الإدراك النظري، بل تمتد إلى بناء الوعي العملي الذي يحقّق غاية الاستخلاف الإلهي في الأرض.
العقل من التساؤل إلى الفعل
لقد رسّخ القرآن الكريم مبدأ التساؤل والجدل والحوار، لا بوصفه تمرينًا فكريًا، بل بوصفه ضرورة وجودية لبناء العقل الإنساني. فالعقل الذي لا يتساءل لا يعي، والعقل الذي لا يحاور لا ينضج، والعقل الذي لا يعمل لا يستخلف. ولهذا كان التساؤل في القرآن دعوة إلى اليقظة، ومفتاحًا للانتقال من مرحلة الوعي النظري إلى مرحلة الوعي العملي.
وحين يصف الله تعالى خلق الإنسان بقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].
إقرأ أيضاً:
فهو لا يتحدّث عن منصب تشريفي، بل عن تكليف معرفيٍّ ومسؤولية عقلية وروحية، تُلزم الإنسان بأن يكون فاعلًا في مجتمعه، صانعًا لنظامٍ يقوم على العدل والإصلاح. فالخلافة في الأرض هي ثمرة العقل الواعي الذي يوظّف علمه في خدمة الحياة، لا في تخريبها، ويجعل من المعرفة وسيلةً للتمكين والإعمار، لا للجدل العقيم أو الترف الفكري.
العقل العامل في النموذج القرآني
يعرض القرآن الكريم نماذج حيّة للعقل الفاعل، الذي جمع بين الوعي والعمل، ومن أبرزها شخصية ذي القرنين، الذي قال الله تعالى عنه: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 84-85].
إنّ تمكين ذي القرنين لم يكن هبةً عشوائية، بل نتيجةٌ لسعيٍ عقليٍّ منهجيٍّ قائم على تتبّع الأسباب، أي على تحويل العلم إلى عمل، والفكر إلى مشروع حضاريّ.
فالقرآن لا يمدح المعرفة ما لم تكن منتجة، ولا يقدّس العقل إن لم يكن فاعلًا. فالعقل في المفهوم القرآني هو طاقة للعمل والتغيير، لا مجرّد وعاءٍ للمعرفة. إنه الواسطة بين الإيمان والإعمار، بين الفكرة والواقع.
مراحل بناء العقل القرآني
ومن خلال استقراء المنهج القرآني في تربية الإنسان، يمكن ملاحظة مسارٍ تربويٍّ متدرّجٍ لبناء العقل الفاعل:
• مرحلة التساؤل: لإيقاظ الوعي الداخلي وإثارة الفكر من سباته.
• مرحلة الحوار: لتصحيح الموروث، وتحرير الفكر من التقليد الأعمى.
• مرحلة البحث عن الأسباب: لاكتساب الفهم العميق والتجربة الواقعية.
• مرحلة الاستخلاف: وهي ذروة النضج العقلي، حيث يتحوّل الفكر إلى ممارسةٍ مسؤولة، والعلم إلى أداةٍ لإصلاح الأرض وتحقيق العدالة.
بهذا التدرّج يصبح الإنسان القرآني شاهدًا على فاعلية العقل، إذ يجمع بين العلم والإيمان، بين الفكرة والميدان، ليصوغ وجوده في ضوء سنن الله ومقاصده.
الخاتمة
إنّ الاستخلاف في التصور القرآني ليس قدرًا مفروضًا، بل مشروعًا عقليًا وأخلاقيًا يحقّقه الإنسان بوعيه وسعيه. فالعقل المتسائل الباحث هو الخطوة الأولى، والعقل العامل المبدع هو الغاية. وبينهما تتجلّى إنسانية الإنسان في أبهى صورها: وعيٌ بالله، ومسؤوليةٌ تجاه الخلق، وسعيٌ في سبيل الحقّ والعدل والإصلاح.
وهكذا، يصبح العقل الفاعل في المنظور القرآني هو أعظم تجلٍّ للإيمان العملي، وأسمى أداةٍ لتحقيق غاية الوجود الإنساني: الاستخلاف في الأرض على منهج الله وعدله.
بقلم الأستاذ في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف آية الله السيد فاضل الموسوي الجابري