
معادلةٌ أخرى يكشف الإمام أمير المؤمنين (ع) النقاب عنها، يحذِّر فيها من الإفراط في حُسن الظن، خصوصاً إذا ساء الزمانُ وأهله، فإنّ حُسن الظنِّ – عند تجاوز حدوده – ضربٌ من قلّة الفِطنة.
ما من شكٍّ، قارئي الكريم، أنّ الأصل في التعامل مع الناس هو حُسن الظن، وحمل أفعالهم على الوجه الأحسن، وأقوالهم على الصدق، إذ لولا ذلك لَما وثق أحدٌ بأحد، ولا تواصل الناس، ولتدابروا وتباعدوا، لذلك دعا الدين – الحريص على بناء علاقات اجتماعية مستقرة – إلى حسن الظن، والحمل على الأحسن، والتمسّك بخلق الاعتذار للآخرين. فقد رُوي عن رسول الله (ص) قوله: "اُطلُبْ لأخيكَ عُذراً، فإنْ لَم تَجِدْ لَهُ عُذراً فالْتَمِسْ لَهُ عُذراً".
ورُوي عن الإمام أمير المؤمنين (ع): "ضَعْ أمرَ أخيكَ على أحسنه حتى يأتيَكَ ما يغلِبُكَ، ولا تَظُنَّنَّ بكلمةٍ خرجت من أخيكَ سوءاً وأنتَ تجدُ لها في الخيرِ مَحمِلاً".
وقد كشف الإمام (ع) عن الآثار الإيجابية الجليلة لحسن الظن، فقال: "حُسنُ الظنِّ راحةُ القلبِ وسلامةُ الدينِ".
وقال أيضاً: "حُسنُ الظنِّ يُخففُ الهمَّ، ويُنجِي من تقلّدِ الإثم".
وقال: "مَن حَسُنَ ظنُّه بالناسِ حازَ منهم المحبة".
غير أنّ كل فضيلةٍ تحتاج إلى ميزانٍ دقيق يضبطها، كما يفعل العاقل السويّ في توسيطه الأمور واتزانه في القول والفعل والمشاعر. فحسن الظن إذا خرج عن حدّ التوازن انقلب إلى سذاجةٍ تُعمي البصيرة، وتشُلُّ الإرادة، وتدفع صاحبها إلى التفريط بحقوقه وكرامته، فيغدو لفرط طيبته مُهمِلاً ومُهمَلاً، ومُغفّلاً لا يحسن تقدير عواقب الأمور.
وحسن الظن خُلُق نبيل من ثمار الإيمان بالخير في الناس، لكنه – كسائر الفضائل – إذا تجاوز حدّه انقلب إلى ضدّه؛ فمَن يُحسن الظنَّ بكل أحدٍ دون تمييز وبلا بصيرة، يفتح الأبواب لكل طامعٍ ومخادع ومصلحي، ومَن يثق بكل وعدٍ دون رويّة يعرّض نفسه للخذلان والخسارة.
تأمَّل ربَّ عملٍ يُفيض على العاملين لديه ثقةً مطلقة، لا يتابع ولا يدقق، يفعل ذلك بنية طيبة، ثم يفاجأ بالأخطاء تتراكم، أو بقلة أمانة بعضهم، لأن النفس الأمّارة بالسوء قد تدفع صاحبها إلى الخيانة إذا أمِن الرقابة وثقة المسؤول. وانظر إلى من يصدّق كل من يثني عليه بكلمة، أو يبتسم له ابتسامة عابرة، أو يعده وعداً جميلاً، ثم ما إن تحضر ساعةُ الجِدّ حتى ينكشف المستور، وتظهر الحقيقة، وتتبدد أوهام حسن الظن المفرِط.
بل إن الإيمان نفسه يقوم على مبدأٍ دقيق يجمع بين الرجاء والخوف؛ فالمؤمن مأمور بأن يُحسن الظن بالله تعالى، والله سبحانه عند حُسن ظن عبده به؛ إنْ خيراً فخير، وإنْ شراً فشر، لكن هذا الرجاء لا بد أن يصاحبه خوفٌ من التقصير ووجلٌ من الذنب، فيجتهد العبد في التوبة والاستغفار.
ومن جملة ما نستنتجه: أنّ الظنّ يؤثر في السلوك تأثيراً مباشراً، فإن انعقد الظنّ على السوء جاءت النتائج سيئة، وإن انعقد على الخير تيسّرت له وجوه الحسنى. وحين يظن الإنسان أن الناس جميعاً صالحون، يكفّ عن المحاسبة والتثبّت، وحين يظنّ أنهم جميعاً خائنون ينقطع عنهم ويعتزلهم، فحسن الظن يمنح الأمان، وسوء الظن يولّد الشك والريبة والخوف، مما يجعل التوازن الدقيق ضرورةً أخلاقيةً واجتماعية.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي