
في هذه الجوهرة الكريمة يربط الإمام أمير المؤمنين (ع) بين معرفة العواقب والصبر، وتوضيح ذلك: من عرف لكل طريق نهاية، ولكل مسير غاية، ولكل فعل جزاء، ولكل شِدَّة نهاية سهُل عليه أن يصبر، ويتحمَّل متاعب المسير، ويتجاوز كل المعوِّقات بأناة وأمل، ذلك أنَّ الإنسان حين يمتلك وعيًا وبصيرة، ويتأمّل في عواقب الأمور، يجد الصبر خيارًا ضروريًا، إذ لا شيء يريد تحقُّقَه إلا ويحتاج إلى الصبر، وهو يدرك أن الأيام تُتَداوَل بين الناس، وأن الأزمات آيلةٌ إلى انقضاء، والضيق آيلٌ إلى انفراج، فيكون صبره باختياره وإرادته، ولا يتعامل معه كخيار يُجبَر عليه.
ومِمّا لا شكَّ فيه أن من يملك هذه الرؤية، ويتدبَّر في العواقب، فإنه يخطو بثبات، أو يتوقف بوعي، فيعرف متى يتقدّم، ومتى عليه أن يصبر وينتظر أن تتبدل الأحوال وتتهيّأ الظروف.
فهذه الجوهرة الكريمة تلخّص علاقة الإنسان مع الزمن وتقلّباته، وتكشف سرّ القوة التي تمنحه الثبات أمام ما يعصف به من أزمات وما يجري عليه من أحداث، وما يقدِّمه من تضحيات ويدفع من أثمان.
فهي بيان لتلك البصيرة التي تجعل الإنسان يرى خلف الشدائد نِعماً كامنة، وخلف الألم معنًى ينضجُ مع الأيام، وأنَّ من ينتظر العواقب لا ينتظرها انتظار الساكت الساكن المستسلم، بل انتظار العارف بأنّ لكلّ واقعة نهاية، ولكلّ عمل ثمرة، ولكلّ جهد حصيلة، انتظار العامل بالقدر الممكن منه، المُتحرِّك بخطوات منضبطة تراعي الواقع، والمتربِّص بالفرص حين تأتيه، وبالزمان أن يُكمِلَ دورته، فيصبح الصبر مَطيَّته لبلوغ غاياته كلها.
وهذا المعنى هو ما يعبّر عنه القرآن الكريم حين يربط الصبر بوضوح المصير والعاقبة في الكثير من آياته الكريمة، منها قوله تعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴿الأحقاف: 35﴾.
ومنها قوله تعالى: ...اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿الأعراف: 128﴾.
فمن يتطلَّع إلى العاقبة، فإنه سيصبر بلا شك، وسيحمله ذلك على الثبات أمام كل مصيبة يُصاب بها، وستخف وطأة ما يقدِّمه من تضحيات، وتَقِلُّ الأثمان التي يدفعها في هذا الطريق.
وتزداد هذه الفكرة وضوحاً حين نسمع الإمام أمير المؤمنين (ع) يقول: "الصَّبْرُ مِنَ الإيْمانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الجَسَدِ"، فالإيمان بلا صبرٍ كجسد بلا رأس، تتحرّك أطرافه بغير توجيه ولا هدف، وهذا تأكيد عظيم على مكانة الصبر من الإيمان، وأهميته في حياة الإنسان، وفي حديث آخر يربط الإمام (ع) بين الصبر والظفر، فيقول: "مَنْ صَبَرَ ظَفَرَ"
إنّ فقدان الصبر في أغلب الأحيان سببه أنّ الإنسان لا يرى النهاية، أو لأنه يستعجل العاقبة، والإنسان بطبعه عجول، يريد أن يتحقّق له كل شيء حين يريده، فإذا تأخَّر عليه الأمر حتى تتكامل أسبابه وظروفه فقد الصبر.
إن الصبر قارئي الكريم قرار وخيار، وكلاهما مرتبط بوعي الإنسان ومعرفته، فكلما زاد علمه ومعرفته بعواقب الأمور، وبأهمية الصبر صبر، ولذلك عليك أن تتخطّى اللحظة الراهنة إلى المستقبل القريب والبعيد، فإن انشغالك باللحظة يدفعك إلى عدم الصبر، يدفعك إلى اليأس والاستسلام، أما تفكيرك في النتائج وتوقعك لها فإنه يحملك على الصبر ويدفعهما عنك.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي